منذ فوز (دونالد ترمب) بمقعد الرئاسة الأمريكية، بات تدخل الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أكثر تأييدا ومحاباة لإسرائيل. فقد تم نقل السفارة الأمريكية الى القدس المحتلة، ومنح ضوء أخضر للبناء في المستعمرات/ "المستوطنات"، وتم ضرب وكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) في محاولة لإنهاء "حق العودة"... الخ. ولا يخلو حديث للرئيس الأمريكي إلا ويتطرق إلى "الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل". و(ترمب) الآن يظن أنه يستطيع أن يفعل ما لم يفعله غيره! فنحن أمام عقلية مثيرة للجدل تعمل بعقلية التاجر التي يملكها والتي سيطلب المقابل لها. وعقلية التاجر مرتبطة بالمال والربح والفوائد، يبتز ويفاوض على طريقة التجار الكبار الجشعين: فهو في البداية يعلن عن عدم رضاه عن اتفاق ما، ثم يبدأ بممارسة الضغوط لإضعاف الطرف المقابل، ويتبع ذلك بمقترحات للقاءات وحوارات تحت الضغط، تنتهي بالوصول إلى اتفاق يصب في مصلحته هو وما يعتقد أنه مصلحة بلاده. هذا تماما ما فعله مع كوريا الشمالية، ويفعله اليوم مع إيران، ويحاول فعله مع السلطة الفلسطينية. فهل تنجح تكتيكاته؟
الرئيس (ترمب) يضغط على الفلسطينيين بقوة. ومسألة تأثير رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) عليه وعلاقتهما الخاصة حيث الغزل بين الطرفين ما زال متواصلا ومتصاعدا، والطاقم المحيط بالرئيس (ترمب) قوامه أبرز مؤيدي سياسة اليمين الإسرائيلي أمثال صهره وكبير مستشاريه (جاريد كوشنر)، وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل (ديفيد فريدمان)، وموفد الإدارة الأمريكية إلى الشرق الأوسط (جيمس غرينبلات) وغيرهم، الذين سلط المحلل الإسرائيلي بصحيفة "معاريف" (يوسي ميلمان)، الضوء في مقال له على ما وصفه بـ"الثلاثي غير المقدس" داخل البيت الأبيض، مشيرا إلى أن هؤلاء "يحركونه من بعيد فيما يخص القضية الفلسطينية حيث يتعمدون إذلال الفلسطينيين وإخضاعهم". وتابع: "كلهم يهود ترعرعوا في التربة نفسها، تعلموا في مدارس دينية ثانوية في الولايات المتحدة، وغرينبلات أنهى أيضا دراسته في مدرسة دينية في إسرائيل". أضف إلى ذلك، تأثير الجزء الليكودي من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة. كل هذه الأسباب جعلت (ترمب) يضغط على الفلسطينيين ويبدأ بتنفيذ بعض من وعوده ملوحا للسلطة الفلسطينية بسوط الحل الأحادي والبحث عن أطراف أخرى تقبل بما يريده (ترمب) بل بما تريده إسرائيل، بدأها بتقليص أمريكي حدث في وقت مبكر (كانون الثاني/يناير 2018) للمساعدة المقدمة (للأونروا)، تلاها نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وتقليص 200 مليون دولار من المساعدة الأمريكية للفلسطينيين، وقرار وقف تمويل (الأونروا)، واصفا عمل الوكالة وأداءها بغير المقبول، لأنه "يزيد من الناس الذين يحق لهم صفة اللجوء بصورة منهجية ولانهائية"، فضلا عن تقارير تقدر أن الولايات المتحدة تعتزم الاعتراف فقط بنصف مليون لاجىء من أكثر من خمسة ملايين لاجىء فلسطيني تعترف بهم "الأونروا". بل التخوف اليوم من أن يشدد (ترمب) على خطواته فتفرض إدارته عقوبات على كبار المسؤولين في منظمة التحرير، وتمنعهم من دخول الولايات المتحدة، وأن تمارس الضغط على دول أوروبية وربما دول عربية لفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية على غرار إغلاق مكاتبها ومنع دخول أفرادها إلى تلك الدول.
حتى الآن قررت السلطة الفلسطينية تحدي قرارات إدارة (ترمب) وتقديم شكوى إضافية إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي ضد كل من إسرائيل الماضية في هدم قرية خان الأحمر البدوية المتاخمة للقدس، وكذلك ضد مخالفة الولايات المتحدة للقوانين الدولية، فيما تصر الإدارة الأمريكية على إجبار الفلسطينيين على العودة إلى طاولة مفاوضات "صفقة القرن" للرئيس (ترمب)، والسلطة الفلسطينية مصرة من جهتها على إحباط الخطة وطرح بديل يحظى بتأييد الاتحاد الأوروبي وروسيا. وفي السياق، يحذر المحلل السياسي (يوني بن مناحيم) ويقول: "السلاح الأخير الذي يملكه محمود عباس هو إعلان تفكيك السلطة، الأمر الذي يُعتبر "سلاح يوم القيامة" بالنسبة إلى السلطة، لكن مسؤولين كباراً فيها يدّعون أن الرئيس ترمب يدفع محمود عباس إلى هذه الزاوية وأنه بالنظر إلى عمر رئيس السلطة ووضعه الصحي الهش، فإن الأمر قد يتحول إلى خيار واقعي". من جهته، يقول المحلل العسكري (رون بن يشاي): "الضغط الاقتصادي الناتج من تقليص ميزانية الأونروا سيؤدي تقريباً بالتأكيد إلى أزمة إنسانية حادة وحقيقية في غزة، وبصورة أقل أيضاً في الضفة الغربية. بالإضافة إلى ذلك، رد الزعامة الفلسطينية على إعلان ترمب الذي يسحب الأساس الشرعي الدولي من المطالبة بتحقيق "حق العودة" سيشعل بالتأكيد الشوارع في غزة والضفة، وخصوصاً على خلفية الصراع على وراثة الزعامة الذي سيظهر إلى العلن في وقت قريب... وهذا يمكن أن ينتهي إلى انتفاضة مصغّرة، أو إلى انتفاضة شاملة".
القضية الفلسطينية تعود اليوم رويدا رويدا لتصبح محور الاهتمام الدولي، ولم تعد مهملة كما في سنوات ما سمي تجاوزا "الربيع العربي. فقد أعادت الجهود السياسية والدبلوماسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك "مسيرات العودة" العالم كله إلى أصل الحكاية: أعمال التهجير التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948، ووضعت الحقوق الفلسطينية، وحق العودة تحديدًا، مجددًا في صدارة الأحداث والاهتمامات الدولية. وإسرائيل تدرك أن هذا النوع من النضال المدني سيعيد للقضية الفلسطينية ألقها وشعبيتها في العالم. لذا، يراهن الفلسطينيون على فشل صفقة (ترمب): التاجر الجشع مواجهين ضغوطه برفض الابتزاز، وأيضا بالصمود الثابت غير المتنازل عن "برنامج الحد الأدنى" الفلسطيني.