بقلم: د. منصور محمد الهزايمة
يشكل قطاع غزة ما نسبته (1.33%) من مساحة
فلسطين التاريخية، فيما يشكل مع الضفة الغربية مطلب الفلسطينيين التاريخي في إقامة
الدولة المستقلة، ويمثلان معا نسبة (27%) من مساحة فلسطين التاريخية، ويطيب لي أن أسميه
جيب غزة، وحيث أن الحديث قياس فهو -حقّا- يشغل ما يشغله الجيب من مساحة في اللباس.
تبلغ مساحة هذا الجيب (365كم مربع)، تحده إسرائيل من جهتي الشرق والشمال،
وله حدود مع مصر يبلغ طولها (12كم)، أمّا واجهته على البحر الأبيض المتوسط فتمتد
لحوالي (40كم).
بقي الجيب تحت الإدارة المصرية لمدة 19عام (48-67)، وبعدها وقع تحت
الاحتلال الإسرائيلي لمدة 38عام (67-2005)، حين اعلنت إسرائيل الانسحاب من طرف
واحد في عام (2005)، لكنه بقي غصة في حلقها منذ ذلك الوقت لا تقدر على لفظه أو هضمه.
دعونا -الأن- نقف على طرفي الحدود القصيرة التي تفصل بين الجانبين، وهي أقصر
حدود في العالم، ففي الجيب الفلسطيني يكتظ ما يقارب 2.3 مليون نسمة في مساحة صغيرة،
النسبة الكبيرة منهم -أساسا- لاجئين يعيشون في المخيمات، وتوجد هنا أعلى كثافة
سكانية على مستوى العالم، وكذلك أعلى معدل نمو سكاني يصل لسبعة أطفال لكل امرأة،
يعيشون تحت وطأة نسب عالية جدا من الفقر والبطالة، أمّا مستوى الدخل -حسب البنك
الدولي-فيبلغ 1250 دولار سنويا، وجميعهم يتحدثون اللغة العربية، أي انهم متسقون مع
الأرض وأهلها ومحيطها.
والأن دعونا نعبر إلى الجانب الأخر، فالكثافة السكانية أقل بكثير في المدن
والمستعمرات المحيطة بالقطاع، ويصل الدخل الفردي إلى 55 ألف دولار -حسب البنك
الدولي- يعيشون في ظل دولة تمسك تماما بالزمام، وتشعر مواطنيها بأن لهم دولة
يمكنها توفير الأمن لهم في ظل جيش قوي وقبضة أمنية مشددة، وفي غلاف غزة نجد لغات
متعددة العبرية والعربية والروسية والانجليزية وغيرها، ومنذ ولاية حركة حماس عاش
الغزاويون في ظل وضع مبهم، فحماس أشبه ما تكون بسلطة خفية، بذات الوقت تعلن نفسها حركة
مقاومة.
ما تقدم يشير أنه حتى في الظروف العادية وأوقات الاستقرار السياسي القصيرة
فإنه يوجد تباين كبير بين الطرفين؛ أحدهما يعيش برفاهية، وأخر يفتقر تماما لكل
ظروف الحياة الطبيعية، ومتطلبات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء وأمن غذائي، بسبب
الحصار المفروض على غزة برا وبحرا وجوا، بالرغم من ادعاء إسرائيل أنها انسحبت من
جانب واحد، وفي ظل هذا الحصار ازدهرت تجارة التهريب التي اعتمدت على الانفاق التي
تربط غزة بمصر، مما أتاح للغزاويين إمكانية جلب الوقود والغذاء والدواء والأجهزة
بل والأسلحة، لكنّ المصريين اغلقوا الأنفاق لتتحول غزة إلى ما يشبه طنجرة الضغط. وللمفارقة
فإن نسبة (10%) من السكان يعتمدون في حياتهم على فرص العمل لدى العدو للقيام
بأعمال مرهقة، لكنهم ممنوعون من البيات هناك ولو لليلة واحدة.
لم يكن هناك استقرار معيشي في غزة، او أفقٍ لحل سياسي بين الطرفين منذ سيطرة
حماس في غزة حد الاحتراب مع سلطة الضفة، وكانت المواجهات مع إسرائيل لا تنتهي، ووقعت
بينهما مالا يقل عن خمس مواجهات بين عامي (2008-2021)، تم فيها تجاوز الحدود والقصف
الجوي المكثف والاغتيالات، لكن سرعان ما كان ينتهي ذلك بخسائر متفاوتة جدا بين
الطرفين، ليوافق الطرفان -دائما- على قبول الوساطات، فتنتهي المواجهات بوقت محدود،
بل ان الإسرائيليين كانوا يسخرون من حكومتهم بأن ما تقوم به هو أشبه ما يكون بقص الأعشاب،
ولا ترغب بقطع الجذور، أي انها لم تكن تريد إنهاء سلطة حماس، بل كانت تطمح أن تكسر
عظامهم دون إدخالهم إلى المستشفى، أمّا ما ألزم حكومة إسرائيل بهذه السياسة
المترددة فهو الرعب من استبدال حماس بمن هو اخطر.
ما جرى يوم السابع من أكتوبر بدا مختلفا تماما تبعا لعدة اعتبارات، أسوق
منها؛ توقيت العملية الحمساوية الجريئة بعد يوم واحد من الذكرى الخمسين لـلسادس من
أكتوبر(73)، ثم المفاجأة التامة لإسرائيل بما تعنيه الكلمة من معنى، وهو ما حدث
أيضا في 6 أكتوبر على الجبهتين الجنوبية والشمالية، لتعود التسميات نفسها من جديد،
وقدرة حماس على تجاوز الحدود برا وبحرا بل وجوا، وهبوطها في مستعمرات غلاف غزة،
ومن ثم ما حدث من قتل وأسر وخطف بما فاق كل المواجهات التي خاضتها إسرائيل من قبل،
ولأول مرة تكون المواجهة في داخل حدود الدولة، بما يسلم بتنامي قدرات المقاومة
الصاروخية لنشر الرعب في كل مدن إسرائيل -لذلك وغيره- بدا أن إسرائيل فقدت الاتزان.
أُصيبت إسرائيل حكومةً وشعبا وجيشا وأجهزة أمنية بالذهول، حتى وُصف ما حصل من
قبل بعض المسئولين فيها بأنه أصعب يوم تمر فيه بتاريخها، وليثار جدل -ما زال مستمرا-
حول تقصير الحكومة فتتشكل حكومة طوارئ جديدة.
نتج عن ذلك أن أُعلنت الحكومة حالة الحرب - للمرة الثانية فقط في تاريخ
الدولة حيث كانت المرة الأولى في عام (48) - والتي تعني وضع الدولة بكل ما تملك من
امكانيات ومرافق في خدمة الحرب، وللحكومة دعوة الاحتياط، وفرض الرقابة على النشر،
كما يمكنها الاتصال مع الأصدقاء لطلب الدعم بأشكاله.
قبل السابع من أكتوبر كادت إسرائيل تنتفخ بالعنجهية واللوثة التوراتية، نسبة
لما تمتلكه من قوة، وما تحقق لها من تطبيع مجاني، بل كانت تدعي انها على وشك الفوز
بالكأس المقدسة؛ أي التطبيع مع العربية السعودية، لكن الأخيرة كانت على ما يبدو
تطلب ثمنا باهظا تنوء به دولة الاحتلال.
الزلزال العنيف أصاب إسرائيل بمقتل، وعلى كل الصعد، وأصاب القيادات فيها
بالغضب الذي يعمي عن اتخاذ الحكمة مسلكا في صنع القرارات، لُيصب جام الغضب والحقد
على المدنيين العزل، وهنا لن يستطيع أحد أن يدافع عن هذا حتى من الأصدقاء.
اليوم باتت إسرائيل في حيرة من أمرها، ويترتب عليها مراجعة كل ما اطمأنت
اليه من قبل؛ من عقيدة عسكرية إلى نظرياتها الأمنية وكفاءة التكنلوجيا المستخدمة
في منظومتها العسكرية وخططها الاستراتيجية، وأهم من ذلك كله، كيف تنزع فتيل الصراع
من أساسه بأن تلزم نفسها الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
قبل أيام قليلة عُقد مؤتمر سلام في القاهرة، لم يحضره المؤثرون، ولم يستطع أن
يخرج ببيان ختامي نظرا لتباعد وجهات النظر بين الحاضرين، وما يثير الاهتمام حقّا: لماذا
لا تتداعى الأطراف الدولية للحديث عن السلام إلا عندما يُسفك الدم الإسرائيلي خاصة
على أرض فلسطين؟!
منذ ثمانية عقود بقيت نقاط الخلاف بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تتزحزح
وتتلخص بما يلي:
أولا/ ماذا بخصوص اللاجئين: هل يعودون أم
يوطنون حيث هم؟
ثانيا/ ماذا عن المستوطنات في مناطق الدولة
الفلسطينية المنتظرة (تضم 700.000مستوطن) هل تبقى أم تزول؟
ثالثا/ هل يمكن تقسيم القدس بين الجانبين؟
رابعا/ هل إسرائيل مستعدة لقبول دولة فلسطينية
مستقلة إلى جانبها؟
منذ اليوم الأول وإسرائيل تقصف بكل قوتها، وتهدد بالزحف البري، لكنها تخشى أن
تتورط بين ما هو استراتيجي وقانوني وأخلاقي، ففي الحروب تختلط الأمور، وخلال
التفاعل لا يمكن الجزم بإمكانية التمييز بين هذه المفاهيم، فما هو قانوني قد يكون
غير أخلاقي، وما هو أخلاقي قد يصبح غير قانوني، وإن حدث ذلك في ظل استراتيجية غير
متماسكة، فسيكون الامر كارثيا تماما.
ما يحدث اليوم يعد مجرد حلقة في هذا الصراع، ولا أحد يعرف على وجه اليقين
كيف تنتهي هذه الأزمة، أو ما هو تأثيرها على المدى البعيد، ولا يضمن أحد مكان ووقت
الانفجار التالي، ما لم تقتنع حكومة إسرائيل المتطرفة مع اصدقاءها بأن الحل يكمن
في العودة إلى جذور الصراع وسحقها، لا الاكتفاء بقص الأعشاب الطارئة السنوية، وإلا
عليها أن تتحمل ما تجره عليها سياسة العنجهية والتعنت.