بقلم: د. منصور محمد الهزايمة
صدر في برلين يوم الخامس والعشرين من
يناير (كانون الثاني 2022) تقرير مؤشر مدركات الفساد بخمس لغات، إذ يصنف المؤشر (180)
دولة واقليم بحسب حالة الفساد فيها، ويموضعها على مقياس رقمي بين (0-100)؛ أي بين
درجة فساد مطلق (0)، وصفر فساد بدرجة (100). لكنّ النتيجة الفعلية على المؤشر لعام (2021) تراوحت
بين درجة (88) للأقل فسادا، واحتلتها ثلاث من الدول هي الدنمارك وفنلندا ونيوزيلندا،
ودرجة (11) لجنوب السودان أي الأعلى فسادا.
أنشئ المؤشر عام (1995)، ويستقي
معلوماته من (13) مصدر خارجي لبناء التصور حول الفساد في الدول المختلفة، ومن هذه
المصادر البنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، ومراكز الأبحاث، وكذلك آراء
الخبراء وشركات المخاطر وغيرها. كما يتم مراجعة طريقة حساب المؤشر دوريا، للتأكد
من أنها متماسكة وقوية، لكنّ المؤشر أيضا يتعرض للانتقادات، ولا يسلم من تهمة
الانحياز.
يحدد المؤشر إستراتيجية مكافحة الفساد
عالميا في ثلاثة محاور أساسية وهي:
المحور الأول: إصدار القوانين
واللوائح التي من شأنها مكافحة الفساد.
المحور الثاني: تمكين الجهات الرقابية
والقضائية القائمة على إنفاذ الاستراتيجية.
المحور الثالث: هو الإرادة الحقيقية
من قِبل القيادة السياسية لمكافحة الفساد وهو الضامن لتفعيل المحورين الأخرين.
لعشر سنوات خلت بقي معدل الفساد على
مستوى العالم ثابتا بدرجة (43/100)، ووقع ما يقارب من ثلثي دول العالم تحت درجة (50/100)،
وبلغ المعدل لدى العرب مع شركاءهم في الإقليم (39/100)؛ أي أقل من المعدل العالمي،
مما يعني أن شعوبنا ما زالت ترزح لأخطر ظاهرة في الحياة.
للعام الثاني على التوالي يصدر المؤشر
في ظل الجائحة العالمية، التي أعلن عنها رسميا في مارس (أذار) (2020)، ومن هنا
وجبت المقارنة بين حالة الفساد ما قبل الجائحة وخلالها، للتعرف الى أي حد كان
للجائحة أثرها في الحد أو الزيادة من آفة الفساد في العالم، وخاصة لدى العرب
وشركاءهم في الاقليم.
منذ صدور المؤشر لأول مرة عام (1995)،
وهو يؤكد العلاقة بين قمع الحريات وتراجع الديمقراطية وتغول النخب الحاكمة
واستشراء الفساد السياسي بظاهرة استفحال الفساد، خاصة في الدول التي تعاني أساسا
من ضعف الموارد والامكانيات، كما يقرن الفساد بالكوارث، إذ يزيد الاستغلال مع
تراجع سبل المكافحة في ظل الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات.
فيما يخص قائمة المؤشر عالميا، نجد أن
دولا معينة ما زالت تحافظ على مكانتها ودرجتها في رأس القائمة وهي (الدنمارك،
فنلندا، نيوزيلندا، النرويج، سنغافورة، السويد)، كما أن هناك خمس دول عربية ما
زالت تتشبث بذيل القائمة يأتي ذكرها، مثلما أن إقليم أوروبا الغربية ما زال يعتبر
الأقل فسادا.
على مؤشر مدركات الفساد لعام (2021)
فيما يخص العرب، بقيت الإمارات تتصدر القائمة (24,68) -وأنوه هنا أن الرقمين سيتكرران
كثيرا بهذا الترتيب، أي أن الرقم الأول للدرجة من مئة على المؤشر، والثاني للرتبة
العالمية بين (180) دولة- وبتراجع ثلاث درجات عن عام (2019) أي ما قبل الجائحة،
تلتها دولة قطر ثانيا عربيا (31,63) متراجعة مكانة واحدة عن مؤشر (2019)، وما زالت
الدولتان الخليجيتان تتصدران مؤشر العرب منذ عقد من الزمن على الأقل بارتياح.
بقيت خمس دول عربية وهي (سوريا، اليمن،
الصومال، السودان، ليبيا) تتشبث بذيل القائمة، بدرجات تقترب من الفساد المهلك،
وتبعا لما تعيشه من ظروف استثنائية.
في الخليج العربي استمرت أربع دول
منها متماسكة تتصدر القائمة العربية، وهي (الإمارات، قطر، السعودية، عمان) وارتدت
البحرين والكويت من المجموعة إلى الخلف، فتقدمت عليها دول عربية أخرى مثل الأردن
وتونس.
في الجناح الغربي للوطن العربي بقي
الترتيب ذاته لثلاث سنوات متتالية، وبفروق كبيرة بينها في الترتيب العالمي بتقدم
تونس، وتراجع المغرب والجزائر وموريتانيا، وليبيا تقبع في ذيل القائمة.
حافظ الأردن على ترتيبه خامسا بين
العرب لخمس سنوات متتالية، واحتل موقع (58,49) عالميا، وبتحسن ضئيل عن عام (2019)،
لينصب النقد بعدم التقدم لسوء الأداء الحكومي، وكثرة التغييرات في الحكومات، مما
لا يتيح فرصة لمواصلة السياسات، ولتتراجع مصر في ترتيبها (11) رتبة بصورة ملفتة،
ودالة احصائيا ما قبل الجائحة وبعدها، لتقبع في موقع متأخر (117,33)، ويفسر ذلك
بسبب التضييق على الحريات العامة والمؤسسات الإعلامية، لكن لبنان تجاوز الجميع
فتراجع (17) رتبة ليحتل مرتبة (154,24) عن مؤشر (2019)، بدلالة لا تقبل التأويل، بأن
الفساد كان متوحشا، وعبّر عن نفسه بانفجار بيروت (2020)، إذ يعزوه اللبنانيون والمراقبون
إلى الفساد السياسي الذي سببّ الانهيار الاقتصادي.
يبقى العراق قريبا من ذيل القائمة، يتذبذب
في موقعه (23،157)، ويعود ذلك إلى الفساد السياسي وانتعاش الطائفية، لكنّ خروج
العراقيين إلى الشارع معترضين على فساد الحكومات، ومتجاوزين للشعارات الطائفية، لم
يثمر حتى الأن.
تراجعت جيبوتي بدلالة إحصائية ملفتة،
فقد تراجعت من ترتيب (126) عام (2019) إلى رتبة (142) عام (2021)، وكان الحال
مشابها مع جزر القمر فتراجعت بصورة دالة احصائيا من رتبة (153) عام (2019) إلى
رتبة (164) عام (2021)، ولم تدخل فلسطين في التقييم.
وعند المقارنة بين العرب وجيرانهم في
الإقليم، نجد تركيا (96،38) تتراجع في مكانتها على المؤشر، ويسبقها تسع من الدول
العربية، بينما تتأخر إيران عن (13) دولة عربية، وتحتل مكانة (150،25)، وما زالت
تقبع قريبة من ذيل القائمة.
أمّا إسرائيل فقد حافظت على ترتيبها -تقريبا-
في أخر ثلاث سنوات برتبة (36،59) عالميا، متخلفة عن بلدين عربيين هما الإمارات
وقطر، ومتقدمة على باقي العرب والاقليم.
ينتقد التقرير الصادر عن منظمة
الشفافية العالمية دولا كثيرة نامية ومتقدمة، بإنها في ظل الوباء تراخت في إجراءات
مكافحة الفساد من إهمال تدابير المساءلة، والحد من الشفافية، وفي أقاليم أخرى
استغلت تدابير الوقاية من الوباء لمنع التجمعات وقمع الحريات.
أبرز المؤشر أن جهود العرب لم تتقدم
في مكافحة الفساد لعقد من الزمن، ولم تحقق النتائج المرجوة، مثلما أظهر أن جهود
مكافحة فيروس كورونا القت بظلها لعامين متوالين على جهود المسائلة بخصوص الفساد،
بل استخدمت إجراءات مكافحة الجائحة ذريعة لتجنب اجراءات المحاسبة، واجتناب الضوابط،
والتوازنات الهامة.
تثبت المؤشرات على مدى عقد من الزمن
عدم جدوى جهود مكافحة الفساد لدى العرب لكن بتفاوت كبير، خاصة في ظل الجائحة
العالمية والفساد السياسي الخانق، مما يعني أن الوباء والفساد يتضامنان معا ليبتزان
الناس في أساسيات حياتهم من صحة وتعليم وغذاء، فالوباء حفزّ الفساد، مثلما أن الأخير
أعاق جهود مكافحة الوباء، بل استغلت الجائحة كذريعة للتضييق على الحريات والتدخل في
حياة الناس.
الدوحة - قطر