استقر في وجداننا على الدوام أنه يحق للشاعر ما لا يحق لغيره، ولم يقتصر
التفضيل على الأدب، أو اللغة، أو الضرورة الشعرية، ولو وقف الأمر عند هذا الحد
لكان مقبولا لا يثير فضولا، لكن الشعراء كانت لهم سلطة معنوية، بل ومادية لا
يستهان بها، حيث كانوا يمتلكون من النفوذ ما جعل الناس تنشد رضاهم أو تتجنب سخطهم
على حد سواء.
جسّد الشاعر في حينه ما يشبه سلطة الإعلام هذه الأيام، فقد كان الناس
يتكلفون فوق طاقتهم ليشتروا مدحه أو يتجنبوا قدحه، فيجوز له ما لا يجوز لغيره،
وغالبا ما تغفر زلته من باب أن الشاعر يقول ما لا يفعل.
ممن اشتهر من شعراء العرب وورد ذكرهم في كثير من مصادرهم الشاعر
الحطيئة، كان جرول بن اوس العبسي من المخضرمين: أي ممن عاش في الجاهلية والإسلام،
وكان شاعرا مُجيدا لكنه سفيها، فقد ورد في البداية والنهاية أن الرجل كان يشعر
بحطته، تبعا لنسبه ودمامته وقصره الذي يقترب من الأرض، حيث لم يسلم أحد من لسانه،
وتعرض للأنساب والاعراض نظرا لرقة دينه، بل وصل الأمر به أن هجا نفسه، لا لينهاها عن
غيها، بل ليعرّض بدمامته.
من أشهر ما روي عن الشاعر قصته مع الزبرقان بن بدر، وهو أحد وجهاء
قومه من بني تميم وفرسانهم، وممن حسن إسلامه وقام على جمع الصدقات من قومه، هجاه
الحطيئة بقصيدة من الشعر برز منها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أمّا عن أسباب هذا الهجاء فتعددت الروايات، برز منها المنافسات بين
الزبرقان وجيرانه من بني أنف الناقة حيث أكرموا الشاعر وأحسنوا وفادته فقام
يمدحهم:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
وبتحريض منهم هجا الحطيئة الزبرقان على الرغم من إحسان الأخير له أيضا.
بلغ الغضب بالزبرقان أن شكاه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهنا أنحو بالرواية
في مسار أخر نحو إبراز طريقة تعاطي السلطة آنذاك مع قضية أدبية في ظل سلطة قادرة تدير
الشأن العام ممثلة بالسلطة العُمرية، فالقضية تنطوي على حقوق معنوية، لا يقبلها
سيد في قومه مثل الزبرقان، بل ولا يسكت عنها.
أعاد الزبرقان على عمر ما قاله الشاعر، ليرد عليه دعواه بأن هذا مدح
لا ذم، لكن الزبرقان يحاجه: أو ما تبلغ مروءتي غير أن آكل وألبس؟!، يطلب عمر
الشاعر حسان بن ثابت حكما فيجيب: إنه لم يهجه فقط، بل سلحه -كناية عن شدة الهجاء- ولا
يكتفي الخليفة بجواب حسان، بل يطلب رأي لبيد بن ربيعة، وهو من ضُرب به المثل "أشعر
من لبيد" ليجيب:” ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حُمُر
النّـعم" -أي كرام الإبل- فأمر به عمر فجعله في السجن -حفرة- آنذاك، ويقال إنه
فكّر بقطع لسانه لولا الوساطة له.
يستعطف الشاعر الخليفة بفراخه-أبنائه- فيسرحه، واختلف
القول بين أن الخليفة اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف، وغيره يذكر أن عمر تركه
للزبرقان، لكنّ الشاعر عاد إلى سيرته الأولى بعد وفاة الخليفة عمر، ثم ارتد.
أقف على الرواية من جهة معالجة السلطة -وقتذاك- لهذه القضية، لم يُسلّم
عمر بمضمون الشكوى للشاكي، فيحاجّه المشتكي بفهم مختلف، ليتراجع عمر عن تقديره
وفهمه، وهو ممن كان يهتم بشعر العرب ولغتهم، ويعتبر تعلم اللغة من المروءة، لكنه لا
يكتفي بذلك، بل يطلب أهل الخبرة والاختصاص، كما تفعل محاكم اليوم عندما تستعين
بخبراء في تخصصات كثيرة عندما لا تتمكن من تقدير الحكم بنفسها.
عندما اطمئن صاحب السلطة إلى رأي الحكماء، أمر بسجن الشاعر، ولا يُعرف
كم مكث في الحفرة، لكن لم يُغفل عنه في السجن، وخرج بشعره أيضا، لا برشوة المديح،
بل بتذلل استعطف به عمر، لتراعي السلطة ظروف فراخه (أبنائه)، ولم تتفق الروايات
على أن عمر دفع له المال، لقاء السكوت عن أعراض المسلمين، لأن نهجا كهذا يتماهى مع
غي الشاعر، على قاعدة أن الدفع يدفع البلاء.
تشير الرواية أن عمر تصرف في القضية بسعة صدر، واستمع للطرفين، وعندما
لم يدرك مرامي الشعر، طلب مشورة ذوي الاختصاص، لكن أما كان ينبغي أن يأخذ عليه عهدا
مكتوبا -على أقل تقدير- بعدم التعرض لأعراض المسلمين أبدا، خاصة أن الشرع يدعم التوثيق،
وأن القران الكريم لم يمجد الشعر بشتى فنونه، لذا لرقة دينه، عاد إلى الهجاء بعد
موت عمر، وقرن الصفح عنه بشخص عمر.
في زمن سلطة الصحافة والكلمة المكتوبة تجاوزت صحف الاثارة أو ما سميت بالصحافة
الصفراء وقتها كل الحدود، وبات من يظهر اسمه في صفحات الجرائد إمّا يشتهر أو يُشّهر
به، لكنّ المحاسبية تضيع بسرعة، بدعوى أنه كلام جرائد لا يُقدّم ولا يُؤخر.
واليوم في زمن الشاشات الملوّنة والزرقاء تختلط الأمور بين حرية
التعبير، ومسئولية التعبير، لتغيب المحاسبية بصورة مؤذية، فتتهشم سمعة كثير من
الناس بتهم لا صحة لها، أو اثبات عليها.
رُمي أحد شيوخ البريق الإعلامي بتهمة تحريض الشباب في بلده على الذهاب
إلى المناطق الساخنة للقتال، مع ما يطلق عليهم جماعات الإسلام السياسي من قبل إحدى
الفضائيات، ليثور الشيخ على التهمة، ويطالب المقدم بالإثبات أو الاعتذار أو
المحكمة، لكن لم يحدث شيء من ذلك، فلا المقدم اعتذر، ولا المحكمة انعقدت، لتراخي
الشيخ عن مطلبه، وربما لعدم الركون إلى موقف السلطة.
ماذا لو تم التأسيس منذ زمن الرواية لأحكام بينة مكتوبة توقف المسيء
عند حده، شاعرا كان أم غيره، تنتصر لصاحب الحق، بل وتمنع الهجاء والتشبيب، ليكون
لحرية القول أو التعبير ثمنا عندما يقع على غير مراميه، لتؤسس لحرية ثمينة، لكنها ليست
مجانية إن لم تقترن بالمسؤولية، ولو تم ذلك على يد أمير مثل عمر كان يُمجد الحرية
ويقدّر المسؤولية، لربما نعمنا حتى الآن بحرية عالية السقف غالية الثمن. الدوحة - قطر