منذ مطلع القرن الماضي وهوية الإنسان العربي الوطنية والقومية
والدينية وفي شتى أقطاره تتعرض للغزو والتهديد، فمنذ أن حمل الاستعمار عصا الترحال،
تصدّت الحركة القومية العربية للنهوض بالأمر، ورفعت شعارات النهضة والتنمية والحرية
والعدالة الاجتماعية والديمقراطية ، لكنّ الحركة واجهت تحدّيات لم يكن من السهل عليها
تجاوزها، وما بين تعقيدات داخلية، وأطماع خارجية، فشلت هذه الحركة بعد عقود من رفع
الراية في الاختبار، لينطفئ بريقها لدى الإنسان العربي أينما كان.
تكشّف لنا بعد هذه العقود أن الاستعمار لم يرحل، وأن الشعارات الوطنية
والقومية كانت زائفة، بل قائمة على مراعاة مصالحه أكثر من القيام على مراعاة مصالح
الشعب العربي، أو العمل على بناء الدولة الحديثة أو التحرر الوطني، تراكم الزيف طويلا
ليبين عن مكنون مترهل، لا أمل في إصلاحه، وليتبين أن الاستعمار لم يترك مصالحه لاعتبارات
أخلاقية، بل أبقى ما يشبه الوكلاء للقيام على هذه المصالح، وبذات الوقت لم تكن التنظيمات
الليبرالية أو اليسارية أو الأحزاب بمسمياتها سواء لبست لبوسا وطنيا أو تدثرت بغطاء
البعث والتقدمية أهلا للثقة، كما أن النخب والمثقفين في شتى زوايا العروبة تحالفوا
مع السلطة، وزّينوا جبروتها لتمكينها من خطف الدولة، والتغول على المجتمع المدني، والمتاجرة
بقضايا الأمة من وحدة ونهضة وتنمية وحرية وتحرير وعدالة واستقلال، لتسويق ظاهرا زائفا
ركنّا فيه لشمس السطح دون الغوص في العمق.
اعتبر الإنسان العربي أن تجربة التيار القومي لم تحقق ما يُذكر أو يُشكر،
ليتقدم الإسلام السياسي كحامل لِلواء التغيير، والحلول التلقائي مكان القومي، والجلوس
خلف عجلة القيادة، على قاعدة أن الطبيعة لا تحب الفراغ، فاستطاع هذا التيار المنغرس
في التربة العربية، والموافق لفطرة ابنائها، أن يطرح نفسه كبديل جاذب واجه الاقصاء
والتهميش لعقود طويلة، لكنّ العمل الدؤوب والتصميم والتنظيم زاد من رصيده اجتماعيا
وتربويا، كل ذلك زاد من حظوظه في أن يبدو الأقرب إلى تلمس اليقين في صلاح الأمر جله.
برز مفهوم الإسلام السياسي عالميا، وتمايز الإسلامي عن المسلم، فالأول
مناضل اجتماعي سياسي له أهداف سامية، وينضوي تحت عضوية تنظيم ملزمة، بينما المسلم فرد
يبني مشروعه الذاتي القائم على الدين، لكن نهج الأول كان الشغل الشاغل في الداخل،
كما في الخارج، وصار للإسلام مستويات؛ سياسي ورسمي، وتصنيفات؛ ديمقراطي وراديكالي،
وجماعات؛ جهادي وسلفي وما بينهما إخواني، بل في داخل الجماعة الواحدة مثل الإخوان هنالك
اليساري واليميني وبينهما الليبرالي، فتحالفت النظم الرسمية مع إسلام رسمي في
اقطار عربية هاّمة، والاثنان اختلفا مع الإسلام السياسي (الجماعات بشتى المسميات)،
فتعاقب العنف مع الهدنة بين الطرفين لعقود، كما أن قوى الهيمنة العالمية سعت في
البداية لاستقطاب رموز التيار الإسلامي، على اعتبار أن القوميين يهددون مصالحهم،
ليتكشف أن ذلك كان خداعا ووهما، وأن الظاهر لا ينبئ عن دلالة المكنون.
وقعت عواصف كثيرة منذ بداية القرن الماضي، كانت بمثابة لوحات فارقة على
الطريق، فسقطت الخلافة (1924)، ثم أُحتلت فلسطين (1948)، وبعدها جاءت هزيمة (1967)
الكبرى، ليسقط التيار القومي سقوطا مدّويا، ثم تقع الثورة الإيرانية (1979)، ليصبح
هناك إسلام رسمي يمتلك دولة، تتطلع إليه جماعات الإسلام السياسي بحماس، لكنه سرعان
ما يركب خطا راديكاليا، ويعلق بشبكة الطائفية، ويخوض حربا طاحنة مع ممثلي القومية
العربية، لمنع استيراد أو تصدير الثورة، أمّا أهم الأحزاب القومية وهو حزب البعث
فلا يستطيع أن يتصالح مع نفسه وهو يهيمن على قطرين متجاورين مهمّين، فُيغلّب فقه
القطعية على فقه الوصل بينهما، وعززّ قيام دولة إسرائيل المدعوم عالميا من حدة
الاستقطاب العربي أفقيا، وفي العمق، ثم ينهار القطب العالمي الموازن الذي اختبأت
خلفه الأنظمة الرسمية لعقود، كل ذلك ساهم في دعم رصيد الأسلمة، والترويج للصحوة، وأغرى
التيار الاسلامي باقتناص الفرصة، مع ابقاء الشعارات اجتماعية ثقافية وحياتية ذات
صبغة دينية، عين ترقب التطورات، وأخرى ترنو إلى السلطة على استحياء، حتى حان وقت
تبني النهج البراغماتي المنافس لينبئ الظاهر من جديد عن غير حقيقة المكنون.
شبّ الربيع العربي كما النار من بين الرماد، بعد أن كاد الإنسان
العربي يفقد الرجاء في حياة كريمة على الصعيدين الفردي والوطني، فبدا مسرح الحياة
ينعم بالهدوء، حتى أن الفكر العربي والدولي لم يكونا قادرين على التنبؤ بما جرى، وسرعان
ما تم سقوط حكام بأسرع مما كان يبدو عليهم من جبروت، فأُنجزت ثورات، وعلقت أخرى في
منتصف الطريق، لكنّ التحايل من أطراف متعددة محلية وعالمية جعل هذه الثورات لا تأتي
أُكلها، فكان التغيير شكلا أكثر منه في المضمون، مع التسليم أننا لا نضع هذه
الثورات في سلة واحدة، تبعا لخصوصية تراث كل شعب من شعوب الثورات، ليعكس ظاهر الأحداث
بعد عقد من الزمن بأن الربيع كان اسلاميا هو وهمٌ كبير.
ما يحدث في فلسطين يجسد بصورة مصغرة ما يدور على الساحة العربية منذ
عقود، فما زال هناك تياران يتصارعان حول كيفية العمل على المشروع الوطني، اختلفا على
نتائج صناديق الانتخابات، وتقابلا بعنف في الشارع، ليقبع كل طرف في جانب من الوطن،
يحجز بينهما الاحتلال، لكن هل بقايا المنظمات اليوم يمكنها الادّعاء أنها ما زالت تجسد
الخط الوطني؟ وهل تمثل حماس ومن يساندها امتدادا للتيار الإسلامي؟ وهل حقا ما زلنا
نراوح بين القومي والإسلامي؟ أم أنه نزاع ظاهره الصراع مع المحتل وباطنه التنافس
على سلطة وهمية؟ وهل نفاجأ من جديد بأن الظاهر لا يشف عن المكنون؟
هنا -تحديدا في فلسطين- لا يمكن تبرير تنازع الإسلامي مع الوطني أو
القومي، ولا نكترث بالتسميات، لأننا نعتقد أن مؤشر البوصلة واضح للعيان، تحدّده تضحيات
الشعب الفلسطيني لأكثر من سبعة عقود، التي لا ينبغي أن تكون محل مساومة، أو متاجرة،
فمن يقاوم، ويقدم التضحيات، لا يستوي مع من ينسق مع العدو ويتعايش معه، بل يتمسك
بسلطة لا تجلب غير المهانة.