منذ سنوات عديدة أصبح الحديث عن
الفساد فاكهة المجالس، وكثر الوالغون في شأنه وتوزعوا بين مدَّع مبالغ، أو واهم
غلبه الظنّ، أو متجنّ صرعه الحسد والحقد، أو صاحب حقّ صبر حتى عيل الصبر، واستنفد
كل الوسائل القانونية، لكن الفساد حال بينه وبين الحصول على حقّه ومازال.
سنعرض هذه الحكاية " المكرورة
الخيالية"، فلن يصدقنا أحد لو قلنا: إنها حقيقية واقعية، ونجعلها محاكمة
علنية على الملأ، لعلنا نقطع الشك باليقين ونثبت وجود الفساد أو عدمه، لتقرّ
عقولنا وقلوبنا ونستقر، ونعوذ بخطام الحقّ ونستعصم به ونلوذ:
-اشترى أحد خُدّام الوطن نصف دونم أرض
يقع على شارع رئيسي عابر للمحافظات، ضمن حوض زراعي له أحكام تنظيمية وارتدادات
إلزامية مرعية لا تسمح مطلقا بالبناء في مثل هذه المساحات الصغيرة، حفاظا على
الرقعة الزراعية.
-تمّ تمليكه بعشر السعر الحقيقي من
أملاك الدولة، فضلة طولية محاذية، مخصصة لتوسعة الشارع الضرورية الحتمية الآنية
قبل المستقبلية، فتمّ بذلك توسعة أرض خادم الوطن، بدلا من توسعة الشارع الذي يخدم
الوطن!! فهل هذا فساد؟؟!!
-بدأ الحفر والتجريف عميقا ليكسب
طوابق تحت أرضية، فعلّق شارعا تنظيميا غير منفّذ، يخدم أراضي المجاورين، وعلّق
أرضهم دون بناء جدار استنادي، وعرّض حياتهم للخطر الداهم الدائم لينعم هو بتهوية
تسوياته، وتحقيق أطماعه وأمنياته!! فهل هذا فساد؟؟!!
-حصل على قرار بجعل أرضه ذات أحكام
خاصة تنظيمياً، وأخرجها من أحكام التنظيم الزراعي، ليزيد نسبة البناء، ويقلل مسافة
ومساحة الارتدادات من جميع الجهات!! فهل هذا فساد؟؟!!
-رغم كل هذه التسهيلات، فإن مساحة
أرضه لا تسمح ببناء أكثر من 200م، إلّا أنه تجاوز كثيرا، وبنى ثلاثة أضعاف هذه
المساحة، واعتدى على سعة الشارع الرئيسي، وضمّ الشارع التنظيمي كاملاً، وحوله إلى
تراسات ونوافير وكهوف تجميلية وأضرحة ومستراحات لنزهة الضيوف، وتجاوز على
الارتدادات أيضا من جميع الجهات، وبنى على حدّ الصفر مع بعض المجاورين، وفتح
النوافذ والبرندات المخالفة المطلة على بيوتهم وأرضهم المنتهكة لخصوصياتهم.
ولأنه خادم للوطن!! فقد مُنح ترخيصا
رغم وجود كلّ هذه المخالفات، وإخطارات التنفيذ، والقضايا المنظورة في المحكمة بهذا
الشأن، وتمّ احتساب قيمة غرامات مخالفاته وفق نظام الأبينية المخفّف لما قبل سنة
2017، علما بأن بناءه كلّه قام عبر عدّة سنوات بعد سنة 2017 وفق نظام جديد غُلظت
فيه العقوبات،فقُدرت جميع غراماته الهائلة بحوالي ألفي دينار فقط، رغم أنها تفوق
كثيرا مبلغ مائة ألف دينار وفق حسابات موظف ديوان المحاسبة الذي رفض إجازة الرخصة،
فأجازها رئيس البلدية السابق شخصياً إمعاناً في قتل القوانين، وهدم حقوق الوطن
والمواطنين المجاورين، وهدر أموال خزينة الدولة، وإكراماً لخادم الوطن!! فهل هذا
فساد؟؟!!
-بحصوله على الرخصة، مُنح عداد كهرباء
مؤقت، فطغت شهوته، وانفتحت شهيته، وأدرك عياناً أن نواطير القوانين نائمة، فبنى
طابقاً جديدا، أردفه ب( روف) ثمّ بنى برجاً للمراقبة فوق كلّ فوق، وأطلّ على
المجاورين من علٍ، ولسان حاله يقول: أنا الذي يرسم حدود القوانين!! فهل هذا
فساد؟؟!!
-خلال كلّ هذه السنوات، كان المواطنون
المجاورون المتضررون يراجعون باستمرار ويتقدمون بالشكاوي عند الحاكم الإداري،
ووزارة الإدارة المحلية، وديوان المحاسبة، ومديرية الشؤون البلدية، والبلدية،
ومديرية الأشغال، وشركة الكهرباء، والمحكمة، وهيئة النزاهة ومكافحة الفساد....
والاستدعاءات تتطاير، واللجان تتوافد، والتقارير تتراسل وتتكاثر، والدنيا تقف على
قدم واحدة خشية إقلاق راحة خادم الوطن!! فهل هذا فساد؟؟!!
-صدر قرارا حكم قطعيان من المحكمة،
اكتسبا الدرجة القطعية منذ أكثر من ثلاث سنوات، يؤيدان إخطارات التنفيذ السليمة،
ويعززان تقارير اللجان المنصفة، ويتلاءمان مع التوجيهات السديدة لبعض كبار
المسؤولين في الوزارة، وقرارات المجلس الأعلى للتنظيم...... ويقضيان بإزالة كلّ بناء
مخالف، وتحرير الشارع التنظيمي، وبناء جدار استنادي لحمايته وحماية أراضي
المجاورين وسلامتهم، والأمر أصبح ظاهرا جلياً لكلّ ذي بصر أو بصيرة.....
لكنّ المشكلة التي استجدّت بعد أن حصحص
الحقّ، تتمثل في ادعاء صعوبة التنفيذ، إذ ظهر مَن يقول: هذا أصبح أمرا واقعا، وإزالة
المخالفات صعبة جداً، ولا نستطيع أن نزعج خادم الوطن الذي فرض هذه الصعوبة بأطماعه
واعتداءاته في ظلّ غياب الحزم الرقابي!! فهل هذا فساد؟؟!!
وهنا، يملأ الفضاء سؤال ممضّ، يسعى
باحثاً عن العدل المفقود، فلا يجده إلّا في السماء عند الرب المعبود: ما فائدة كلّ
هذه القوانين والأنظمة والتعليمات والإدارات والمراقبين والموظفين واللجان
والدواوين والتقارير ومحاكم البلديات وقراراتها القطعية.... وما جدواها إن لم تجد
مَن يطبقها؟؟؟
ولماذا نشعر بالدهشة وهول المفاجأة
عندما نرى العنف المجتمعي يستشري؟ والأمن الاجتماعي يختلّ؟ والثقة بالمؤسسات تهتز؟
والارتكاس نحو أخذ الحق باليد يتعمق؟ هل هذا وغيره مما يشبهه يحصل بسبب الفساد؟!
أم أننا حقّاً بخير، والوطن بخير، والقوانين بخير؟؟؟؟!!!!