دأب أحد المدرسين عبر عدّة سنوات على
نشر مقامات تحكي حكاية عاشها، أو تخيلها، ليكون فيها عِظات وعِبر، عسى أن تنفع
المتأملين، ويكون فيها عزاء وتسلية للمظلومين.
ومختصر حكايته أنه تقدم بطلب ترقيته
المستوفي لكل الشروط المطلوبة، فتمّ ردّ طلبه دون توضيح الأسباب. فبدأ يخاطب
جامعته ليعرف خطأه فيصوبه، أو ذنبه فيتوب عنه. وبعد عدّة شهور، وجهد جهيد، قيل له:
إنّ أحد أبحاثه منشور في مجلة لا تعترف بها الجامعة، فبدأ مخاطبات جديدة أثبت فيها
لكلّ مَن يسمع ويعي، ولديه مسكة عقل أن البحث المذكور منشور في مجلة تنطبق عليها
تعليمات الجامعة جميعها السابقة واللاحقة، وأن البحث نفسه تمّ اعتماده سابقاً في
جامعته نفسها لسنة تفرغه العلمي، ثم لنقله من فئة إلى فئة أعلى في رتبته الحالية.
لكنّ المسؤولين أصرّوا على موقفهم، وأصرّ المدرس أيضاً على المطالبة بحقه، لإيمانه
بأنّ الباطل لابدّ من مواجهته.
وهنا، طغى الظلم وتجبّر، فبدأت مضايقة
المدرس، والتنقيب عن أيّة هفوة له، والتنقير عن أيّ سهو، فوجّهت له عقوبة تنبيه
ظالمة باختراع ذنب واهٍ واهن.
ولما لم يكن ذلك كافياً لإسكاته، جاءت
الطامّة الكبرى باتهامه بتسريب الأسئلة لطلابه: فقد تمّ التنصت على محاضراته
القديمة المسجلة في فترة التعليم عن بعد، فاكتُشف - ويا لهول ما اكتُشف- !! أنه
خصّص إحدى المحاضرات لمراجعة المادة لطلابه من كتاب مشترك مقرّر إلزاميّ، استعرض
معهم قواعده، وأمثلته المعدودة المحدودة، ثم كانت جنايته أن بعض هذه الأمثلة في
المادة المقرّرة وردت عنها أسئلة في الامتحان المشترك، فعُدَّ ذلك خطأً صارخاً
صريحاً جسيماً، وتسريباً للأسئلة، علماً بأن الامتحان عن بعد، والكتاب كله بين
أيدي الطلاب، ولا رقيب عليهم إلّا ضمائرهم، وليسوا بحاجة إلى من يسرّب لهم أمثلة
يرونها أمامهم!!!
ظفِر المسؤولون النبهاء الحكماء
العاقلون العادلون بهذا الصيد الثمين!!! فتشكلت اللجان للتحقّق والتحقيق، وشمّرت
عن سواعد الجد، ودقّت ساعة العمل للكشف عن هذه الخيانة العظمى وملابساتها وظروفها
وحيثياتها، وأثرها الخطير على سمعة المؤسسة ومستوى التعليم وسويّة الاخلاق.....
!!!
وعبثاً حاول المدرس المصدوم المظلوم
المطعون في خلقه، وهو على مشارف السبعين من عمره، عبثاً حاول إقناع هذه اللجان بأن
الأمر يستحيل على عاقل أن يكيّفه بأنه تسريب للأسئلة.
لكنه سرعان ما أدرك يقيناً أن هذه اللجان
مأمورة مسلوبة الإرادة مقهورة، ارتضت لأنفسها أن تكون مطيّة للظلم وأداة لإسكات
صاحب الحق. فتلقى عقوبة الإنذار المتوقعة، وتوجّه فورا إلى المحكمة، وبعد عذاب
انتظار، واستنزاف الجهد والوقت والمال والأعصاب، ظهرت بجلاء براءته، وتمّ إلغاء
العقوبات.
ثم تفرّق المسؤولون السابقون أيدي
سبأ، وقال الدهر فيهم قولته، فتقدّم المدرس للترقية مجدداً بعد ضياع عدّة سنوات،
فحصل عليها بعدالة وجدارة واستحقاق، وبتقارير تحكيم إجماعية، منصفة راقية إيجابية،
وأهديت ترقيته إليه، وألقيت بين يديه!!!
نظر المدرس المتألم إليها، واستحضر درب
الآلام التي مرّ بها، والأشجان التي عصفت بروحه من أجلها، وخيّمت الذكريات الأليمة،
فتفجرت الأحزان على وطن هكذا تدار الأمور في بعض مؤسساته.
زهد في ترقيته التي طال عذابه في
انتظارها، فغابت فرحته، وغامت عيناه من الأسى على مؤسسة وهبها عمره، ومهنة شريفة
منحها قلبه، وطلاب ربّاهم كأبنائه يملأون رحاب الوطن، كانوا قد آمنوا به، ووثقوا
بأخلاقه، وقدّروا عطاءه، لكن مؤسسته حجبت عنه أدنى أساسيات حقوقه، وطعنته طعنة غدر
في شرف سمعته، فاستعاد شريط ربع قرن من العمل الجاد، وعزم على الرحيل نهاية هذا
الفصل دون رجعة، وهاهو يودّع طلابه بشغاف قلبه، لكنه يترك هذه الرسالة المفتوحة
لكل من ظلمه، فيقول لهم والألم يملأ جوانحه:
ماكان ضركم يا أصحاب الدكاكين
والدواوين لو تركتم هذا المدرس وشأنه؟ وعدلتم في أمره، وفصلتم بين عدم حبه لكم أو
حبكم له وبين حصوله على حقه كفاء جهده والتزامه واستقامته؟ ماذا يضيركم ألّا
يتقرّب منكم؟ ولا يتودّد إليكم؟ ولا يظهر لكم خلاف ما يخفي؟
لمَ أزعجكم احترامه لذاته، وصدقه مع
نفسه، وترفّعه أن يدور في فلككم، وأن يكون مداهناً منافقاً وبوقاً مأجوراً لكم؟؟؟؟
هل تشعرون بالصَّغار أمام المحترم؟ هل تؤذيكم النظافة؟ هل تكشف سوءاتكم الاستقامة؟
هل تفضح تهافتَكم الجديةُ في البحث والأمانة العلمية؟ هل يغيظكم النجاح في التدريس
والإخلاص في العطاء؟ هل تحكّ جربَكم العدالةُ في العلامات؟ هل يتفِّه كبرياءَكم
الفارغة احترامُ الطلاب والتواضع لهم والوفاء بحقهم؟ هل يعرّي مثالبَكم كرمُ الخُلق
واستواء السيرة ونقاء السريرة؟ هل تفجّر جبنَكم الجرأةُ والصراحة والجهر بالرأي
دون مواربة؟
لقد ترك لكم هذا المدرّس كل ميدان، لم
ينافسكم أو يزاحمكم أو يطلب أيّ شيء مطلقاً منكم، اعتكف في محراب عمله، واعتزل
دنياكم الملوثة: تسرحون وتمرحون، تعيّنون وترقّون وتنقلون، وتمنحون وتُغدقون
وتقرّبون ......
ورتعتم في المال العام: كان عامّة
الخلق يُقتطع من رواتبهم في جائحة كورونا، ويتبرعون رغم مسيس الحاجة، وأنتم
تتفاخرون إعلاميا بتوقيع شيكات بالأموال المجموعة من أصحاب الفاقة من رعيتكم،
وتصرفون لكم ولزمرتكم الألوف والألوف، بزعم أنكم تتقدمون الصفوف في الخنادق
الأمامية بصدور عارية لردّ جحافل الجائحة!!! كنا نحن ننام ملء الجفون لأنكم تسهرون
ليلاً تلو ليل تحرسون وتدافعون!!! لمْ تدّخروا أيّة فرصة مهما ضؤلت في سبيل قنص
المال لكم ولحاشيتكم ....اجتماعات، ساعات دوام إضافية، سفرات، لجان ، كتب جامعية،
عطاءات....وبرعتم في الاستثمار فأصبحتم أصحاب مطاعم وعمارات وعقارات.... ولعلعت
أسماؤكم في دنيا باطل المصالح والمنافع، تقدّمون وتؤخرون، وتركبون كل موجة، ولا
تنسون دوماً أن تتغنوا بحب الوطن واستقراء الرؤى، واستشراف التوجيهات، والتزام القوانين.....!!!!
ثم كانت النهاية الحتمية اللائقة
العادلة المستحقة لكم فغادرتم، لكن تركتم في النفوس جروحاً غائرة، ليس منكم شخصيا
صدقوني، بل على وطن أنتم تمثلونه، ومؤسسات يقودها أمثالكم.....
ماذا جنيتم؟ وماذا استفدتم؟ ماذا تفيد
كل أعراض الدنيا عندما يخسر الإنسان منا نفسه، ويبيع ضميره في سوق النخاسة، ويخون
أمانته بأبخس الأثمان، ويعيث فساداً في وطنه، ويسيء إلى سمعته، ويظلم رعيته، ولا
يُذكر اسمه إلّا بدعاء كسهام الليل تتعقبه وتصيبه وتنشب أظفارها به؟ أين أنتم من
عذاب الضمير؟ هل تراجعون أنفسكم فيما اقترفتم واجترحتم؟ هل تعادل سنوات عزّكم
الزائف لحظة واحدة ساخنة مدويّة من فضيحة الإقصاء والإزراء والازدراء
والمهانة؟؟؟!!!
لن نسامحكم. نعم، والله لن نسامحكم.
لكننا سندعو الله لكم أن يوقظ ضمائركم، ويُنبت الأخلاق الإنسانية السوية في نفوسكم
لتُمضوا ما تبقى لكم من أعماركم تحاكمون أنفسكم، وتنتظرون جزاءكم الحتميّ القادم
العادل في صحتكم وأسركم وأرزاقكم وغياب راحة بالكم.
أمّا نحن، فما هادنّاكم يوماً، ولا
حسبنا لكم حسابا، ولا أقمنا لكم وزناً، وظللنا على عهدنا في استقامتنا ونهوضنا
بمهمتنا ووفائنا لقدسية رسالتنا، وإيماننا بأنّ الأوطان لا تُبنى إلّا بالسواعد
النظيفة القوية، والعقول الراجحة الحكيمة، والقلوب النقية الأبية.
لكم طريقكم، ولنا طريقنا، ما التقينا
يوما في هذه الحياة الدنية، ولن نلتقي.
كلانا غنيٌّ عن أخيه حياتَهُ
ونحن إذا متنا أشدُّ تغانيا.