بضعة عقود يعيشها الإنسان في هذه الحياة:
أيامه الحلوة نادرة عزيزة المنال، والمرارة تلفّه وتحاصره في كل مجال، ثم يمضي نحو
لقاء ربه، وهاتف يصيح به، ويصكّ أذنيه: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا
فملاقيه.)
وللناس في رحلة الحياة هذه مذاهب شتى لكن
أشرفها هو مذهب الالتزام بأحكام الدين ، وسنام الاخلاق، والتمسك بالحقّ، والدفاع
عن الوطن.
وهذا ما نراه عياناً في جنين وأرجاء
فلسطين: فئة صامدة مؤمنة بربها وحقها في وطنها تدافع عن أمتها، وتضع دَبْر أذنها
التفاوت الهائل بين إمكاناتها وجبروت أعدائها، وترى خيارها ماثلاً أمامها بين
الأمرّ والأمرّين.
الموت كأس مرة تنزع المرء من الدنيا
الغرور، لذلك ترى الضعفاء المتشبثين بخيوط الحياة الواهية الواهمة يفرون منه، ولا
يرغبون في مواجهته، ويرتضون أن يعيشوا متسربلين بالذل لأنهم أحرص الناس على حياة.
وأما الأحرار فيفرّون إليه ويطيرون إلى
لقائه، ويواجهونه بعنفوان مدركين بأن مرارة مواجهته بعزّ أهون ألف مرة من ردفها
بمرارة الذل والهوان، والموت واحد في كل حال، لكن شتان ما بين موت الناكص الجبان وموت
الأسد الهصور في الميدان، وبين من يُجَرّ إلى حبل المشنقة جرّا لأن قدميه لا
تحملانه، زائغ النظرات غارقا بالمهانة، ومَن يتسابق مع رفاقه في الثلاثاء الحمراء
نحو المشانق تصدح حناجرهم بأهازيج البطولة، أو يقف طودا شامخا وصقرا شاهقا ينظر
بازدراء إلى شانقيه، فترتعد فرائصهم من بريق عينيه.
ماتوا في جنين، ويموتون، وسيموتون رافعي كل
هامة، شامخي كل جبين، متحدين صامدين مواجهين :
ينتصرون بموتهم لأنهم يخطّون برصاصهم
ودمائهم سطور خلود قضيتهم في سفر الزمن، ويثبتون لعدوهم حينا بعد حين أنّ خسارة
معركة أو معارك بفعل تآمر المستعمرين والمتخاذلين لن ينهي حربا، ولن يغلق ملفا،
ولن يطمس حقا، ولن يجلب أمناً ولن يفرض حلّا.
واهم من يظن أن كل موت هزيمة، فبعض الموت
انتصار، وأيّ انتصار!!!! والشهادة في ذرى الأرض المقدسة المباركة غاية المنى،
وأعلى مراتب العلى، والمؤمن بحقه لا يهزمه الموت.
"شرّدوا أخيارها بحرا وبرّا واقتلوا أحرارها حـرّا فحـــرّا
إنما الصالح يبقى صالــــحا آخر الدهر ويبقى الشـرّ شــرّا
كسّروا الأقلام هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقشَ صخرا؟
قطّعوا الأيدي هل تقطيعــها يمنع الأعين أن تنـظر شزرا؟
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها يمنع الأنفاس أن تصدر زفْرا؟
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم وبه منجاتنــا منــكم فشــــكرا.