يداهمنا همّ تتلاطم أمواجه في الأذهان الكليلة وتدلهمّ، ونحن نتذكر أمة عربية مجيدة، كرّمها الله واصطفاها من بين كل الأمم، تتوسّط الدنيا، وتموج تحت أرضها محيطات من الخيرات، ويجري الدم في عروق أبنائها جامحاً أبيّاً نقيّاً عزيزاً، لكنه يهون كثيرا ويرخص، ويسيل أنهارا على مذابح البحث المَرَضيّ المحموم عن السلطة المقيتة.
أكثر من ألف وخمسمائة عام ونحن على هذه الحال، لا تكاد تستقرّ فينا روح الجماعة رغم توافر كلّ شروطها وظروفها ومتطلباتها:
في الجاهلية قبائل متنافرة متناحرة تتفانى في حروب طاحنة فيما بينها، أو تُقدَّم قرابين حروب للأباطرة والأكاسرة في ظلال الغساسنة والمناذرة، والفتى العربي الضليل يصحو من سكره ليثأر للملك القتيل، ويبحث عن الملك الضائع والمجد الأثيل، فيموت في أنقرة غريبا شريدا، وشاهد قبره ينشد عبر المدى ليردد الصدى:
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ.
ويرتقي بنا الإسلام لنبلغ الذرى سريعاً، ونتوحّد طوعا أو كرها، لكنّ الجسد الشريف كان مُسجّى ولم يوارَ الثرى بعدُ عندما أطلّت الفتنة مبكرا برأسها في السقيفة، وكادت أن تذرّ بقرنها لولا هيبة الفاروق، فأُغلق الملف، وعاد القوم بالصِّدّيق خليفة.
لكنّ حروب الرّدة انفجرت وطغت والتهمت ما التهمت، إلى أن توحدت الجزيرة، وتجلّت عظمة العرب المسلمين الذين انطلقوا يقارعون الفرس والروم ليطيحوا بهما معاً في بضع سنين.
وفي حمأة كل هذا النصر المبين الذي أذهل العالم، كان الصراع على السلطة بمكر خارجيّ أحياناً، أو بأيدينا نحن غالباً، يفتك بنا، ويفتّ في عضدنا، ويخضد شوكتنا، ويزرع في صدورنا حقداً دفيناً لا يزال مقيما:
هذا خليفة يُطعن في محرابه، وذاك يُقتل وهو مكبٌّ على قرآنه، ليطوف قميصه الأمصار، ويهيّج الأحزان، ويثوّر الأحقاد، وتسيل الدماء أنهاراً تلي أنهارا في الجمل وصفين والنهروان....، ويُغتال الخليفة الرابع وهو ينادي ويكبّر لصلاة الفجر، وتهدأ الأمور قليلاً، وتتمدّد الفتوح برّاً وبحراً، ويستقر الأمر لبني أميّة، ويصبح العرب سادة العالم بلا منازع.
لكنّ لعنة طلب السلطة تلاحقهم في كربلاء وحرّة المدينة، بل في الكعبة المشرفة، حتى إذا هدأت الصراعات الخارجية قليلاً، كانت تصحو الصراعات الداخلية، والناس لا تنام يوما على همّ قديم، إلى أن لاحت طلائع البيارق السوداء من خراسان، وزحفت غربا لتفتح الآفاق لشمس بني العباس، بينما كان صقر قريش يضع الأساس لدولة عظيمة عزّ نظيرها في الأندلس.
لكنّ النزاع على السلطة ظلّ ينهش الدولتين شرقا وغربا إلى أن تفتّتت الشرقية إلى دويلات ممزقة، كل أمير يستقوي يقتطع منها ولاية، ويصبح سلطانا يجود على الخليفة بالدعاء له على المنبر يوم الجمعة.
ورغم بعض الشهب التي لمعت في سماء الإسلام مثل: صلاح الدين محرّر فلسطين وقدسها من الصليبيين، إلّا أن الأمور اتجهت نحو الانحدار، بينما كان ملوك الطوائف في الأندلس يتكاثرون ويتقاتلون، في الوقت الذي كانت فيه الأخطار الخارجية الصليبية والمغولية والإسبانية تحدق بالجميع، لتكون النتيجة الحتمية المنتظرة، فيُقتل الخليفة العباسيّ مهيناً ذليلا في بغداد، ويغادر العرب الأندلس إلى غير رجعة بدموع أبي عبدالله الصغير في غرناطة.
ويتولى المماليك الحكم، وتدين لهم القلوب بالوفاء لصدهم هجمة المغول، وتحرير كامل فلسطين من الصليبيين. ثم يبزغ نجم بني عثمان ليعيدوا الخلافة الإسلامية، ويفتحوا القسطنطينية، ويتوغلوا في أوروبا وتخضع لهم دولها وإمبراطورياتها.
لكنّ العرق العربي يتوارى عن الأمجاد، ويدفع غالياً ثمن النزاع والصراع على السلطة.
ويطلّ القرن العشرون، فتظهر النزعات العربية، والدعوات إلى الوحدة، والثورات لتحقيقها، لكن الاستعمار الماكر عبث بنا، وعصف بآمالنا وما زال، فمزّق بلادنا، وشتت شملنا، ونثر الفرقة بيننا، وزرع في خاصرتنا كياناً سرطانيا خطيرا مصطنعا ينهشنا منذ قرن وسيبقى كذلك، وما زلنا نحن أيضاً في سكرتنا صرعى طلب السلطة، نتقاتل ونتهالك في سبيلها، ولا نتعظ ولا نعتبر:
دولنا تتهاوى تباعا أمام نواظرنا، وكلنا ننتظر دورنا وما من مدّكر، فالنزوع للسلطة، والتشبث بفتاتها، والغرق بغمرة خمرتها يغيّب عقولنا، ويضيّع رشدنا، ويهوي بنا إلى غياهبنا..........
كنا إلى بضع سنين خلت غرقى بآلامنا المتجددة في فلسطين ولبنان والصومال والعراق وسوريا واليمن......
ووحّدنا الألم إلى بضعة أيام مضت، ونحن نعاين ظلم العدو وفجوره في الأقصى، فجاءتنا فاجعة السودان لتفجّر فينا مجددا ينابيع الأحزان:
دولة عربية خيراتها تكفي قارّة، نيل يتهادى من مبدئها إلى المنتهى، وسهول يسبح فيها النظر بعيدا بعيدا إلى آخر المدى، فيرتدّ خاسئا حسيرا، وخيرات من الذهب والمعادن لا تكاد تنضب، وشعب واحد يوحده الدين والعروبة والألم والأمل والتاريخ والجغرافيا واللون، حتى الهزال................
وبدلاً من أن يتوجه للإصلاح والتعمير والبناء والتعليم، ها هي لعنة السلطة تلاحقه، فيخسر جنوبه، ثمّ تسري النار في جناب شماله، ويسيل دم هذا الشعب العربي الأبيّ الطيب السمح عبثا وهدرا على مذبح السلطة.
ونخشى أن الأسوأ لم يأتِ بعد، فبيئة التقسيم ممهدة في الدارفور غرباً وكسلا وبور سودان شرقاً، وجروحنا ستبقى غائرة دامية متجدّدة بسبب ....... لعنة السلطة!!!
وإذا ما التأم جرحٌ جَدّ بالتذكار جرحُ!!
في دول الدنيا العاقلة يتناوبون على السلطة عبر منظومات تشريعية محترمة نافذة سائدة، ومجالس وإجراءات شرعية عادلة، فإذا اختلفوا احتجوا ونزلوا إلى الشوارع والميادين بمئات الآلاف، بل الملايين، ولا تسيل نقطة دم واحدة، وإذا زاد منسوب احتجاجهم طرقوا على أدواتهم بالملاعق، أمّا نحن فلا مجال للتفاهم بيننا إلّا بالطائرات والبنادق!!!!!!!!!!!!!!
رُحماك ياربّ!! أما لهذه العذابات من نهاية؟؟ أين المفرّ ؟؟؟!!!