بقلم:
د. حفظي اشتية
الخبر..
ورد في بعض المواقع الإخبارية أنَّ موظفاً في إحدى البلديات كان يختلس من المال العام
على فترات مبالغ صغيرة، يتدانى بعضها إلى دينارين ونصف فقط، فيتراكم المبلغ
ويتعاظم حتى بلغ 224 ديناراً !!!
تنشغل
المحاكم بالقضية، ويطوف الملف على الجنايات والاستئناف والتمييز ليصدر الحكم
النهائي بداية وفق المادة 1/174، ثمّ أخيراً وفق المادة 177 من قانون العقوبات،
بسجن الموظف خمس سنوات، يتم تخفيضها إلى سنتين ونصف، لضآلة المبلغ، ولأنّ الموظف
أعاده كاملاً إلى الخزينة قبل أن تحال "أوراقه" إلى المحكمة!!!
المبتدأ
لا
شكّ أن هذا الحكم عادل وفق نصوص القوانين، وأنّ هذه الحكاية تجعلنا نهيم في لذيذ
الأحلام بأنّ مجتمعنا تدبّ فيه روح العدل، وتندر حالات الاعتداء على المال العام،
وأنّ المعتدي الأثيم يلقى – لا محالة- جزاءه العادل، ليكون عبرة لغيره، ومثالاً
ناصعاً للجديّة والحزم في تطهير المجتمع من العبث والسطو الحرام.
لكننا
سرعان ما نستفيق على خبر آخر في المواقع الإخبارية ذاتها، فحواه أنّ اللجنة
المالية النيابية قد اجتمعت لمناقشة تقارير ديوان المحاسبة للأعوام 2018-2020، حول
المخالفات المالية وغيرها في بعض الجامعات. وأوصت بتحويل بعض المخالفات إلى
القضاء، وبعضها الآخر إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد.
وإذا
انضاف إلى ذلك ما يتردّد من أخبار – إنْ صحّت- بأنّ المخالفات في إحدى الجامعات
تطال مبالغ بمئات آلاف الدنانير، بل تدخل حيّز الملايين، فإننا نجد أنفسنا معلقين
على حبل الرجاء بأنّ سيف العدالة المسلط على رقبة موظف اختلس مائتي دينار، يجب أن
يكون أكثر عدلاً وحزماً وسطوةً وبطشاً على رقاب هؤلاء المخالفين المختلسين، لأنّ
المبدأ واحد، لكنّ الظروف مختلفة؛ فالموظف الصغير المختلس قد تكون دفعتْه إلى ذلك
حاجته إلى شراء خبز لأطفاله في أعوام رمادة طالت وتتالت، وغاب عنها عدل عمر بن
الخطاب، وحنكته ورحمته، بينما يختلس هؤلاء" الكبار" لشراء العقارات،
والاستثمار في المطاعم و"المولات"، والتمتع بالرحلات والمشروبات
والولائم.
موظف
البلدية اختلس من أموال الدولة، بينما اختلس هؤلاء من رسوم الطلاب، ومن قوت
أهاليهم المساكين، أو من حقوق ورواتب ومكافآت بعض المدرسين والإداريين المخلصين.
إنهم
يختلسون وأفراد المجتمع النظيفون يدفعون، يختلسون ويتناسون أنهم في بيئة التربية
والتعليم، مهنة الأنبياء والمرسلين، فأيّ حال أوصلونا إليها؟! وأيّة نماذج
يمثلونها لنقتدي بها ونبني عليها؟!
-الحكم
العادل جميل، لكنّ الأجمل هو الحزم في تطبيقه، والسرعة في تنفيذه، والأمانة في
تعميمه وتعميقه.
ما
زال صوت رسولنا الكريم يجلجل عبر العصور ليسمع مَن يعي ويرعوي :
"وايم
الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وما
زالت غضبته العارمة- عليه الصلاة والسلام- تتجلّى في صفحات الزمن وهو يثور على
العدل الانتقائي المطبّق على الضعيف، المراوغ الممالئ للّص الظريف "
الشريف".
-ننتظر
بفارغ الرجاء والصبر أنْ يكون العدل نافذاً شاملاً مدوّياً، فإنْ حُكم وَفق مواد
القانون على موظف مسكين اختلس مائتي دينار بالسجن خمس سنوات، فإنّ العدل وَفق
المواد ذاتها يقتضي أنّ تُسترد ملايين الجامعة المنهوبة، وتُفرض على المختلسين
غرامات تماثلها، ويُحكم عليهم بالسجن عشرات السنين، ويُطردوا إلى غير رجعة من
الوظيفة الشريفة والمهنة المقدسة.
-وهمسة
حرّى أخيرة لدواوين التدقيق والمراقبة أَنْ طاب جهدكم، لكننا نأمل المزيد منكم،
والمثابرة في المتابعة والمحاصرة، فالمال العام يجب أنْ يبقى مسيّجاً بصحوتكم،
مصوناً برعايتكم وتحت أنظاركم، وإلّا فإنّ المشهد سيتكرّر ويتعدّد ويتمدّد، وسنظل
نقف على أطلال التحسّر نتنهد وننشد ونردّد :
"نامت
نواطير مصر عن ثعالبها فقد
بَشِمْنَ، وما تفنى العناقيدُ"