مسجد تخلده الآيات، ويصلي فيه الأنبياء، وصخرة المعراج إلى سدرة
المنتهى، وحجارة طاهرة ألِفت خطوات المؤمنين الطاهرين، وأشجار باسقة تستعيد حكايات
السنين، ومحاريب ترحل من حلب تنتظر يوم التحرير الموعود، ومآذن تحفها الملائكة تصل
الأرض بالسماء، وأسوار تحتضن البطولات، وفي المخيلة صناديد يتقافزون كالأسود بعدة
قليلة وإيمان وافر، وحناء الشهادة وعبقها يضوع في الأرجاء، وأبواب شامخة تقلّب
صفحات التاريخ بكبرياء، وعابرون لقطاء مهجنون مدججون بالغدر والسطو والزيف،
أسكرتهم غفوة الزمن فانتشوا واستعذبوا العدوان، وأسقطوا عقدهم النفسية الأزلية على
أتقياء ذنبهم أنهم لبوا النداء، وهرعوا إلى لقاء ربهم يناجونه ويتمرغون في رداء
طاعته .
شاب نحيل يرقب المشهد، وقلب الأسد بين ضلوعه يخفق بجنون، الجنود
المعتدون أمام ناظريه، لكن الحشد يحول بينه وبين الوصول إليهم .
ضاقت الأرض في عينيه، فلم يبق أمامه إلا السماء، كيف قفز ؟ كيف طار ؟
كيف هوى على رؤوسهم من العلياء؟ ننظر، ندقق، نستعيد الصورة مرة إثر مرة، فلا نكاد
نعرف كيف حدث ذلك، إنها ثوان معدودات، تحول فيه الشاب إلى أسد، يثب وثبة الأسد،
يزأر زئير الأسد، يبطش بطشة الأسد، اعتلى رؤوس الجند، ينشر الهول فوقهم، ويزرع
الروع في قلوبهم، ويفرق جمعهم، وينوشهم من علٍ وهو يصيح بهم :
" ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو
القبر "
لك الصدر يا إبراهيم والقبر لإعدائك، لك العزة والعنفوان ولهم الجبن
والخذلان، لك معارج العلى أيها الشاهين، ولبغاث الطير مدارج الوهاد، لك قول الله
تعالى :
" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون "، ولهم الذلة
والمسكنة حتى يومهم المرتقب الموعود القريب بإذن الله .
يا لنحول جسمك يا إبراهيم ! ويا لنظرة الصقر في عينيك ! ويا لجرأة
الجنان بين جنبيك !
حقا، لكأن الشاعر قد استشرف الغيب ووصفك أنت وحدك، وكان يعنيك حين قال
:
ترى الرجل النحيل فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتــبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أكثرها فراخا
وأم الصقر مقلاة نزور