بعد أيام قليلة تبدأ الدولة الأردنية الحديثة مئوية ثانية من عمرها،
في ظل حكم الأسرة الهاشمية، حيث تشكلت أول حكومة في شرق الأردن في 11نيسان (1921م)،
ومنذ ذاك، مرّت الدولة الأردنية من عهد الإمارة حتى عهد المملكة الرابعة الذي
نعيشه اليوم بالكثير من الأحداث الجِسام، ممّا لا يمكن حصره أو اختزاله في مقالة أو
أكثر.
في التاسع من يناير هذا العام (2021) أعلن وزيرا الثقافة والدولة لشؤن
الإعلام عن خطة يبدأ العمل بها اعتبارا من الحادي عشر من نيسان للاحتفاء بهذه
المناسبة، ولا نعرف إن كانت هذه الخطة ما زالت قائمة، أم طواها النسيان، أو أُجلت أو
اُختزلت نسبة لظروف تتعلق بأزمة المرض أو غيرها، حيث لم نسمع شيئا بعد ذلك الإعلان،
وكما جاء فيه فإن هدف الخطة يتمثل بتذكير الأجيال بتاريخهم، وزيادة معرفتهم به، أو
تنقيتها، أو تجويدها، بما مرّت به الدولة إمارةً ومملكة، أرضا وقيادةً وشعبا، من أحداث
متلاحقة استطاعت تجاوزها.
تهدف هذه المقالة الأولى بصورة
أساسية لتقديم صورة واقعية عن الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية
والاجتماعية لأبناء الجيل، الذين لم يعرفوا الكثير عن تلك الحقبة، تبعا لما يكتنف
حياتهم اليوم من حداثة أبعدتهم عن تراثهم، ونظرا لأن تاريخ المنطقة تعرض للإهمال،
لذلك لا توجد كثيرٌ من المراجع التي تتحدث عن حقبة الإمارة (1921-1946م) بما يبين
المعاناة التي عاشها الأردنيون في تلك الحقبة في كافة جوانب الحياة، وبما يشرح أسباب
مشكلاتنا الحالية التي ما زالت تمت بصلة لما عاشه أسلافنا آنذاك.
وحتى لا يتشعب الحديث كثيرا،
ونتوه بعيدا فيما سبق المئوية، لذلك دعونا نبدأ القصة قبل أعوام قليلة من تاريخ
قيام أول حكومة شرق أردنية في 11نيسان (1921م).
خضع شرق الأردن للعثمانيين منذ عام (1516م)، وبقي في ظل حكمهم أربعة
قرون متصلة من الاهمال، لكنّ المنطقة بدأت تكتسي أهمية خاصة في نظر الدولة
العثمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر، نظرا لوقوعها على طريق الحج، لذلك أقامت
الدولة سكة الحديد والقلاع والبرك ونصّبت الحاميات في طول البلاد من الرمثا حتى
العقبة، لكن يبدو أن ذلك اقترن بشهور الحج فقط، أمّا الحياة العامة فكان يغلب
عليها الغزو والتناحر بين القبائل فيها، وكذلك مع قبائل عبر الحدود غير المحددة،
والغارات على أهل القرى، وفرض الإتاوات التي لا تنتهي.
كانت أكبر الحواضر في شرق الأردن مع بداية القرن العشرين الكرك، وكان يعيش
فيها (550 أسرة)، والسلط (480 أسرة)، يمارسون الرعي والزراعة، لكنهم كانوا يعانون
الويل من طرفين؛ القبائل التي لا تنتهي غاراتها لفرض الخاوة عليهم، وبذات الوقت
يخضعون لأشكال كثيرة من الضرائب التي يتولى أمرها والي دمشق العثماني، إلى أن يهجر
الفلاح أو صاحب الأرض مكانه هربا منها، لتعيش المنطقة على الدوام فراغا سياسيا
وفوضى عارمة.
قبل مخاض ولادة الإمارة (1921م) بقليل، وقعت الكثير من الاحداث
العسكرية والسياسية الجسيمة، ففي نهاية (1918م) وبعد أكثر من أربع سنوات توقفت
الحرب العالمية الأولى بعد صراع مدمر، لم يشهد التاريخ مثله من قبل، إذ كان نزاعا
شاركت فيه معظم دول العالم، ونتج عن هذه الأزمة ظهور تحالفات دولية جديدة، وانضمت
الدولة العثمانية الممتدة عبر ستة قرون للحرب إلى جانب الإمبراطوريتين الألمانية،
والنمساوية- المجرية، ودولة بلغاريا، ولما كانت الدولة العثمانية تعيش أحلك أيامها،
وغلب عليها مسمى الرجل المريض في أخر عهدها، فقد كانت مناطق نفوذها محط أطماع الجميع.
أثناء ذلك، لم تكن الدولة العثمانية قادرة على
تقديم ما تقتضيه التابعية لرعاياها من العرب وغيرهم، بل كانت تمارس بحقهم العسف
والجور، خاصة من واليها في دمشق، بإعدام خيرة رجالهم، كما كانت لا تستطيع منع
القبائل من فرض الخاوة على الفلاحين، وأصحاب الأراضي، ليأتي بعدها جباة الدولة
لتحصيل الكثير من الضرائب، على الأراضي والمساكن والمحلات ، وسخرة العمل في الطرق،
والمسقفات والمعارف، والخدمة العسكرية، التي ترهق كاهلهم كل ذلك دون أن يقدم لهم
نظير تقديمها أية خدمات، لدرجة أن أكثرهم كان يهجر أرضه، وسكنه، وما زرع هربا
منها.
إبّان تلك الظروف الحالكة للدولة العثمانية والعرب معا، وفي ظل الحرب
العامة العالمية (1914-1918م) وجد الناشطون من القوميين العرب من كافة الأقطار
السورية وغيرها الفرصة تلوح في الأفق، لتحقيق آمالهم وطموحاتهم في الاستقلال،
وإعلان دولتهم الموحدة، وبذات الوقت دخلت بريطانيا على الخط في عام (1915م) بأن
اتصل مكماهون ممثل الملكة في مصر بالشريف حسين بن علي، بهدف المقايضة حول مبدأ
مساعدة العرب للحلفاء في الحرب، نظير مساعدة الحلفاء للعرب في ثورتهم، وتحقيق
مطالبهم بإعلان استقلالهم، وإقامة دولتهم في سورية الكبرى وعاصمتها دمشق.
في صباح 10يونيو (1916م) أطلق
الشريف حسين الرصاصة الأولى تعبيرا عن انطلاق الثورة العربية ضد الدولة العثمانية،
بالتعاون مع بريطانيا العظمى، وبتأييد من أعيان العرب، وبقيادة أبناءه؛ حيث كان الأمير
فيصل بمثابة قائد الثورة العسكري، والأمير عبد الله بمثابة وزير الخارجية، الذي يدير
العمل الدبلوماسي مع الحلفاء باسم والده الملك قائد الثورة.
انطلقت الثورة بحماس تحقق مكاسبا كبيرة على الأرض، مستفيدة من دعم الحلفاء،
وداعمة لهم بنفس الوقت، وكانت تطهر المناطق من الحاميات العثمانية بسرعة مذهلة، وتتقدم
من الجنوب إلى الشمال، وقدّم العرب خدمات حربية كبيرة للحلفاء، تمّ الاعتراف بها، لكنّها
لم تُقدّر لهم، وقد بلغ عدد مقاتلي الثورة (70) الفا من المتطوعين من أبناء العرب
بين عامي (1916) و(1917)، وكان الحماس شديدا بين القبائل العربية خاصة القاطنة في
شرق الأردن للالتحاق بالثورة، وكان لأبناء شرق الأردن دورا عظيما في مناصرة الثورة،
وأول من التحق بها قبيلة الحويطات بقيادة عودة أبو تايه، وربما كان لقمع ثورة
الكرك (1910م) سببا رئيسا لذلك، ويذكر لورنس العرب في كتابه أعمدة الحكمة السبعة أنه
عند قدوم أبو تايه لمبايعة الأمير فيصل في بلدة الوجه كان هناك ما يشبه الاحتفال بقدومه.
انضمّ الكثير من الضباط العرب ممن خدموا في الجيش العثماني للثورة
العربية، إضافةً لتطوّع أعدادٍ كبيرة من العرب لمحاربة العثمانيين بين عامي (1916-1917م)،
وزاد ذلك من عدد المقاتلين ومن قوتهم، توالت أحداث الثورة وتمكّنت من طرد
العثمانيين من الحجاز، ومن شرق الأردن، كما حرروا حلب وحماة وبيروت وصيدا وصور
وحمص، بعدها شُكّلت الحكومة العربية الأولى في مدينة بيروت، ورُفع العلم في سراياها
وبهذا بات العرب قاب قوسين أو أدنى من تحقيق طموحاتهم، ولكن خيبتهم كانت عظيمة باحتلال
بريطانيا لتلك المناطق المحررة.
في الوقت الذي كان فيه العرب تأخذهم الحماسة لثورتهم، ويقتربون من
تحقيق غاياتهم الكبرى، كان حلفاؤهم يخططون للانقلاب على ما تم الاتفاق عليه معهم، وفي
أيار (1916م) أنجز اتفاق سايكس- بيكو بين مندوبي بريطانيا وفرنسا أي بعد أسابيع
قليلة من اتصال الحسين-مكماهون، واتفق الطرفان فيه على تقسيم البلاد العربية موضوع
الثورة بين نفوذهما، وبموجب الاتفاق أدخلت شرق الأردن في منطقة النفوذ البريطاني،
لكنّ الاتفاق بقي سرّيا حتى تشرين 2 عام (1917م)، عندما كشفه الحكم الجديد في
روسيا بعد الثورة البلشفية (1917م)، وكذلك الدولة العثمانية.
يقول لورنس العرب في كتابه أعمدة الحكمة السبعة" أنه وقع في التناقض،
عندما كان يريد أن يخلص لأهداف الإمبراطورية العظمى، وبنفس الوقت لا يريد أن يخدع
القوم الذين يعمل معهم، ويضعون ثقتهم فيه، وقد عرف عن نكوص بريطانيا عن وعودها، ويروي
أنه كان عندما يُسال عن وعود وتناقضات الإمبراطورية، كان يطلب منهم الاعتماد على أخر
ما صدر من بريطانيا، ويصف العرب أنهم يثقون بالأشخاص أكثر مما يثقون بالمواثيق"،
لكنه يدّعي أنه عزم على مساعدة العرب بإخلاص مهما كان الأمر.
بقيت المماطلة ومحاولة التهرب من تنفيذ العهود قائمة ، على الرغم من التقدير
لمساعدة الثورة في المجهود الحربي للحلفاء، حتى انتهت الحرب العالمية في تشرين 2
عام (1918م)، كما انعقد مؤتمر الصلح في باريس (1919م)، ومثّل العرب فيه الأمير فيصل،
حيث أثار المسألة العربية التي تتمثل بمطالب الاستقلال والدولة الواحدة، اعتمادا
على مشروعيتهم الثورية، وعوامل الوحدة بينهم، ثم تواصل الأمير مع الفرنسيين، لكن
دون جدوى، بل تقدمت الاتفاقيات البريطانية الفرنسية على ما سواها، وفي 15 أيلول (1919)
تم الاتفاق بين رئيسي حكومتي فرنسا وبريطانيا على انسحاب بريطانيا من سوريا لصالح
فرنسا، مقابل تثبيت الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين وشرق الأردن.
لم تسفر الاتصالات الدبلوماسية عن شيء، وعُقدت العديد من المؤتمرات
القومية التي طالبت بوحدة الأراضي السورية، ورفضت المزاعم الصهيونية في فلسطين، وطالبت
بإنهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية في مناطق سورية، وفي أذار (1920م) أعلن الملك
فيصل استقلال سورية، وتشكيل أول حكومة عربية برئاسة علي رضا الركابي، لكنّ
بريطانيا وفرنسا عارضتا هذه التدابير، ووجهتا إنذارا مشتركا للملك فيصل، تحذرانه
من الإقدام على أية خطوة تتعارض مع مقررات مؤتمر الصلح، وبنفس الوقت تدعوانه
للمشاركة في المحادثات بينهما، قبِل الملك الإنذار، لكنه فوجئ بهجوم الجيش الفرنسي،
بحجة أن رد الملك تأخر عن الموعد المضروب.
في 25 نيسان (1920) قرر المجلس الأعلى لعصبة الأمم في إيطاليا تجزئة
البلاد السورية، ووضعها تحت الانتداب، مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور في فلسطين
الذي صدر في الثاني من تشرين 2 (1917م) عن وزارة الخارجية البريطانية، وأقرّ
الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان.
في صباح 24تموز (1920م) احتلت القوات الفرنسية سوريا، بعد انسحاب
بريطانيا منها، ودارت معركة ميسلون الطاحنة مع الجيش العربي، اضطر الملك فيصل
لمغادرة سوريا الى فلسطين في أب من نفس العام، وبذلك انهارت مملكة سورية، واحتلت
فرنسا لبنان وسورية.
خلال حكم الملك فيصل في سورية الذي دام لأشهر في عام (1920م)، كان شرق
الأردن مقسوما إلى ثلاثة ألوية؛ الأول في الكرك ومركزه بلدة الكرك، ويتبعه أقضية
معان والطفيلة والكرك، ونواحي المنطقة الأخرى، أمّا الثاني فكان لواء البلقاء
ومركزه السلط، ويتبعه قضاء عمان والجيزة، وناحية مأدبا، والثالث لواء حوران ومركزه
درعا، ويتبعه أقضية أذرع وبصرى الشام وجرش وعجلون، وهنا يقتضي التنويه أن المسميات
الإدارية ما زالت عثمانية، وتقسيم الألوية بهذه الصورة كان قبل ترسيم الحدود في
المنطقة الذي سيتم الحديث عنه فيما بعد.
الدوحة – قطر