ما زالت الأزمة العالمية المتمثلة في جائحة الفيروس تبث افرازاتها في
كل مناشط الحياة، وفي شتى الاتجاهات، حد إعادة الصياغة لكثير من المسلمات والمفاهيم
والمعتقدات، بشتى فروع العلوم، نخصُّ منها علم الاجتماع الذي يهتم بدراسة العلاقة
بين الأفراد، وما بين الفرد والجماعة، ومثله علم الإنسان الذي يتصدى لما يحيط به
من تحديات نفسية وفكرية وتنظيمية ومادية، ولم يسلم من تداعياتها عالم السياسة بما
يخص العلاقة بين الفرد والدولة، أو العلاقات عبر الإقليم والعالم، كما طال علم
الاقتصاد بما أحدثته الأزمة من ارتباك في حياة الأفراد والأسر والمؤسسات من حيث أساليب
العمل والتسوق، أمّا ما يثار حول الفيروس الحقير بحجمه وقسوته حتى اللحظة، يقبع في
خانة اللا يقين، حيث يواجه العالم تحديات مثيرة في الأفكار والعلاقات والأدوات،
لكن هل يُعاد تشكيل عالم ما بعد الأزمة بفكر إبداعي خلاّق؟
في قطاع التعليم -تحديدا- كان الهمُّ مؤّرقاً أصاب الجميع؛ أسرةً
وأبناءً ومعلمين ومؤسسات تعليمية وحكومات وقد حشروا جميعا بين خيارين أحلاهما مر؛ صحة
الأبناء أو إنقاذ تعليمهم؟!، أوجب ذلك تسريع المراحل، واستدعاء الخيارات البديلة، لتكون
قيد التنفيذ الفجائي المحموم، فالتطور في قطاع التعليم كما في غيره، حقق الكثير من
التقدم -وإن كان بطيئا- فمن التعليم التقليدي القائم على المحاضرة لقرون، إلى البث
التلفزيوني الفضائي، فالتعليم الالكتروني والتوسع في استخدام أدوات التكنولوجيا، وصولا
إلى استخدام منصات التعلم عبر الشبكة العنكبوتية، هذه الأخيرة جسّدت أفضل بديلٍ متاح.
فرض التحدي نفسه في زمن قصير، قوبل بطرح حلول سريعة أملتها إجراءات لم
يكن بالإمكان تجاوزها، أهمها التباعد الاجتماعي، ومن هنا تبدلت الأدوار بين أطراف
العملية التعليمية، وبلغت الضغوط على الأسرة أقصاها في نواحٍ كثيرة، أصعبها متابعة
الأبناء في تعليمهم، ممّا حتّم تغيير القناعات والأدوات دون مقدمات تجاه التكنولوجيا
الحديثة، مثل ضرورة تَعلُّم المزيد من مهارات استخدامها، حيث انتعش قطاع
التكنولوجيا خلافا لغيره، بل كان مستفيدا من كساد مرير أصاب القطاعات الأخرى، فزادت
مبيعاته بنسبة 70%، وصارت الحاجة إلى منتجاته خاصة في التعليم والصحة متزايدة، حيث
حاز دورا مزدوجا في العمل والترفيه، وصار قطاع الطلبة أكبر مستهلك لمنتجاتهم، وألزم
الظرف تكوين شراكات هامّة بين الحكومات والناشرين ومقدّمي التكنولوجيا ومشغلي
شبكات الإنتاج والمؤسسات التعليمة من أجل إنقاذ العام الدراسي والجيل، باعتماد منصات
التَعلُّم التي قدمت البديل غير مكتمل الملامح حتى اللحظة.
لكننا في ذات الوقت الذي نبدو فيه وكأننا نعيش في عالم واحد، يخوض
معركة واحدة، نُفاجأ بأن التفاوت والتراتبية تفرض نفسها من حيث المدى المتاح لدى الأفراد
والأسر بين جهات العالم وقاراته، فمثلا هناك 60% من الناس فقط يستخدمون الشبكة على
مستوى العالم، ممّا يجعل التحديات لكثير من الدول قاسية تفوق قدرتها دون أن تُمد لها
يدٌ صديقة، ممّا يفاقم من حدة المشكلة، ويصبح التعليم ليس في متناول الملايين،
خاصة في ظل محدودية الموارد لكثير من الأسر، المصاحب لارتفاع أسعار الأجهزة،
وصعوبة الوصول إلى الشبكة، فضلا عن تواضع الخبرات.
إن الحراك الذي حدث في قطاع التعليم شكلّ تجربة جديرة بالتقدير والاهتمام،
ليست آنية نتيجة أزمة، كما الدبلوماسيات التي تبرز في مرحلة وتختفي معها، بل هي
راسخة القدم والملمح، حيث تحققت مكاسب لا يمكن النكوص عنها، أو التضحية بها، بل ستصمد
إلى أن يزيحها ما بعدها.
إن المسئولية اليوم تقع على الجميع في محاولة التخفيف من الأثار
السلبية للأزمة، وتعظيم ما برز من إيجابيات، وخاصة ما تمّ في مجال التعليم، حيث حافظت
المؤسسات التعليمية على الاضطلاع بدورها في تثبيت الشراكة مع الأسرة، والتخفيف
عنها لتبقى اللبنة الأساسية في مجتمعاتنا.
بات اللايقين يغلف حياتنا، فنتلقى الخبر ونفيه معا، وتدهمنا النصائح من
دون ناصحين، ويتنافس العلم مع المشعوذين، وفي ظل الأزمة توجس الفرد في ذاته،
والمجتمع في قيمه، والدولة في قيمتها، لكنّ اليقين يتمثل بأن عالم ما بعد الجائحة
ليس عالم ما قبلها، وتقدم الأزمة فضاءً متاحا للتأمل والبحث، لإعادة تأهيل الفرد
والمجتمع والدولة على أسس من الكفاءة والحكمة والتبصر، وليس على أسس الولاء أو التبعية
أو الانغلاق.