يهدف حياة الحريم المزدوجة، في نظر المستشرقين، إلى الاستعراض أمام أعين العامة، بينما تهدف الثانية للخاصة داخل دار العائلة، إلى بلوغ حريات الإشباع المطلق، وذلك تأسيسا على آليات التنافر بين العام والخاص. والحق، تتعامل النسوة بحرية مفرطة للغاية فيما بينهن، فيرددن: “إذا لم تلبي رغبات زوجك، فإنك تعرضي نفسك لغضب الملائكة!” كما يدعي هؤلاء المستشرقون. وكما هو متوقع، يحدث مثل هذا النوع من الخصوصيات النسوية الحريم ويدفع بهن لتقديم كل وأفضل ما لديهن لإمتاع أزواجهن، إن لم يعمدن إلى الانتقام من الزوج المسيء لهن بطرق خاصة، هي من أسرار دار الحريم!
ناهيك، عن آثار هذه الانطباعات على تأجيج اندفاع الرحالة الغربيين من أجل اختراق جدران الحريم بحثا عمّا لا يمكن بلوغه في بلدانهم الأوروبية الأصل، وكما تعكس ذلك صناعة السينما اليوم، من بين سواها من صناعات الثقافة الشائعة. لقد افترض نقاد المجتمعات الإسلامية في أنفسهم، ومن بينهم الرحالة الغربيون عامة، القدرة على الاضطلاع بأدوار “عناصر تحرير” للمرأة المسلمة، متخيلين أنفسهم مخلّصين أكبر قدرة وأكثر مواءمة على سبيل التعامل مع النساء المسلمات والفوز بثقتهن. وبإضافة الشعور الكولونيالي المتعالي المبطون بالتفوق، اعتاد الضابط أو الإداري “الأشقر الطويل” أن يقدم نفسه، نوعا متفوقا من الرجال الذين ينبغي أن يتوقعوا المكافأة، ليس فقط من خلال السماح لهم باختراق جدران عالم الحريم، ولكن كذلك بواسطة الاستهانة برجال الحريم المحليين، خصوصا بعدما يستبعد هؤلاء المغلوب على أمرهم من المسلمين عنوة عن نسائهم. لا بد أن يكون هذا الخط في التفكير، أي المنطق المشحون بعقدة التفوق، هو المسؤول عن توليد الغضب الذي طالما بقي يؤجج الاحتجاج والتمرد المحلي ضد المستعمر الأجنبي من خلال تأجيج مشاعر الغيرة، ثم بواسطة استفزاز الحساسيات.
إذا ما شاء المرء تجهيز الأفكار الخاصة بالحريم والمرتبطة بمجتمعات عالم الإسلام عامة، أي تلك الأفكار التي استعرضتها عبر عدد من مقالاتي، فلا تبقى حاجة له إلى بذل الكثير من الجهد لإيجاد الدلالات التي أهملت، أو التي مرت بلا ملاحظة كافية من قبل نقاد الاستشراق، خصوصا تلك التي يوحي بها اللفظ “حريم” بحد ذاته، على صفحات أي مصنف، أو قاموس أو جدول معلومات يقود إلى التشبث بقارة عملاقة من الأدبيات التي ألفها الكتاب الغربيون (رجالا ونساءً) لمباشرة موضوع النساء المسلمات ابتداءً من العصر الوسيط، ونزولا حتى اللحظة الراهنة وذلك عبر أعمال من نوع الفيلم الوثائقي المعنون “موت أميرة”، من بين سواه من الأعمال القصصية والسينمائية والدعائية المشحونة بالعدائية.
ونظرا لجعل لفظ “حريم” يكتسب مثل هذه الهالة المظلمة من الدلالات المسيئة في دواخل العقل الغربي، فقد عمدت في كتابي القادم (الحريم في أعين المستعمر) إلى أن أستله، لفظا مفتاحيا، تتبأور حوله هذه الدراسة لأنواع المفاهيم الخاطئة ولأشكال التمثيلات المشوهة التي أحيلت إليه وربطت به.