لا بد لاختصاصيي التاريخ والمهتمين به
أن ينتهوا إلى السؤال الأهم في هذا الموضوع، وهو: من يصنع التاريخ: الأبطال
المنفردون؟ أم الجمهور؟ هو استفهام مؤرق بالنسبة لدارسي حركة التاريخ ومتابعي
نشرات الأنباء على حد سواء.
في الوقت الذي يذهب به المؤمنون
بالبطولة الفردية إلى أن أية دراسة لحركة التاريخ في تيار الزمن، لا بد وأن تؤشر
بأن الأحداث الجسام التي غيرت مجرى التاريخ كانت دائما لا تخلو من إرادة البطل
الفرد، بدليل أن هذه الأحداث المفصلية أو المنجزات المهمة بقيت عبر التاريخ تحال
إلى أسماء أفراد! أما مؤيدو النظرية (لنقل) الاشتراكية، فإنهم ينفون دور البطل
الفرد، لينحازوا إلى الجماهير باعتبار أن الأخيرة هي وقود تغيير التاريخ وكينونة
مفاصله الأساس كالثورات والإنجازات الكبرى والتحولات الاجتماعية والحروب، من بين
سواها من مفاصل التاريخ التي لم تزل آثارها ماثلة أمامنا عبر العالم، كالثورة الفرنسية
والثورة الصناعية، الثورة البلشفية والوحدة الألمانية.
وإذا ما كان هناك ثمة قدر من الصحة
والدقة في كلا التعميمين أعلاه، فإن للمرء أن يرتجع لنظرية مهمة كــ”نظيرة البطل”
التي أطلقها كارلايل Thomas Carlyle
في قمة عصر الثورة الصناعية ببريطانيا، ذلك أنها تؤشر على نوع من التوازن، ناهيك
عن والإنصاف بين النظرتين أعلاه، برغم انحيازه للعبقرية الفردية على نحو لا يقبل
الشك.
يشبه كالاريل التغيرات التاريخية
المفصلية بدوره حياة طائر العنقاء Phoenix
الأسطوري الذي يضع بيضة واحدة طوال حياته، كي تفقس هذه البيضة بعنقاء أخرى تولد
لتحلق نحو الأعالي بعد أن تحرق العنقاء الأم نفسها! وهكذا إلى ما لا نهاية. إلا أن
دراسة كارلايل للثورة الفرنسية التي شهدها التاريخ أشرت له بأن ثمة توازيا وتوازنا
بين القوتين المحركتين للتاريخ، وهما (1) البطل، و(2) الجمهور.
لذا، يرصد كارلايل عرب ما قبل الإسلام
باعتبار الجمهور البطولي الذي كان في انتظار وترقب لحدوث “القدحة التاريخية” التي
تطلق طاقات الجمهور الكامنة في عملية تاريخية تغير مسار الحياة.
وبحسب هذه الرؤية، كانت العرب بانتظار
القدحة التاريخية منذ زمن طويل، حتى ظهور الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)
الذي خدم “قدحة تاريخية” أطلقت طاقات العرب الكامنة منذ قرون كي تستحيل طوفانا
كاسحا، لم يكتف بقلب أوضاع أحوال جزيرة العرب، ولكنه فاض بجبروت وطاقات فائضة لا
تقاوم خارج جزيرة العرب ليغرق العالم القديم بأسره تقريبا. القدحة البطولية كانت
شذرة فردية متمثلة، بالرسول الكريم؛ أما الطاقات البطولية المتحررة، فقد كانت
جماعية، مشكلة أنموذجا مهيبا لما يمكن للطاقة الفردية أن تفعله إن وجدت التوجيه؛
لذا، حالما ما تواءمت وتناغمت القدحة مع طاقات الجمهور الذي يبقى لدهور في انتظار
القدحة البطولية الفردية ليحرر طاقاته، ثم ليفعل فعله على سبيل التقدم إلى أمام!