بقلم: أ.د. محمد الدعمي
قبل انعقاد قمة الدول الغنية G8 في سكوتلاندا لمناقشة
مشكلة الفقر وسبل مواجهتها في العالم، وتحت شعار (ساعدوا شعوب العالم الأفقر)،
أقيمت خلال السنين الماضية حفلات روك موسيقية مليونية في عدد من عواصم الدول
الغنية من أجل دعم الفقراء والتبرع بالحصاد المالي للحفلات لتحسين أحوالهم. وإذا
ما كانت هذه الحفلات في الهواء الطلق قد شهدت أفضل مغني “الروك والبوب” في العالم
الغربي، فإنها كذلك قد شهدت حضور أعداد غفيرة من الشبان والشابات الذين ذهبوا هناك
للرقص من أجل الفقراء في أفريقيا. والحق، فلا يدري المرء كيف يخمن حجم المفارقة،
إذا ما عرف أن الملايين من الفقراء الذين يراد مديد العون إليهم لم يشاهدوا هذه
الحفلات، وربما لم تكن لديهم أدنى فكرة عنها. هذا يذكرنا بما فعلته “أوبرا ونفرد”
الشخصية التلفزيونية الأميركية الشهيرة، حيث دفعت “حصتها” من “واجب” دعم الفقراء
الأفارقة عن طريق إهداء عدد من أطفالهم أحذية رياضية و “دمى”، بإعتبار أن معالجة
الفقر العالمي تبدأ من “الملابس”، وتنتهي بالعلب الملونة. وللمتابع أن يتيقن أن
جهد أوبرا هذا لم يكن يهدف إلى مساعدة شلة من الأطفال الأفارقة، بقدر ما كان يهدف
إلى تكريس صورتها في الإعلام الأميركي كـ”صانعة للسلام”، وإلاّ ما تفسير تصوير هذا
“الاستعراض” الإنساني لعرضه عبر العالم.
لست اشك بأن جهد المغنين والموسيقيين
الغربيين إنما يمثل حداً أدنى مما يمكن أن يقدمه الأغنياء للفقراء، ولكن ليس على
الطريقة الأخلاقية المتسامية التي تفرض العطاء والجود دون علم الآخرين، بل العطاء
باليد اليمنى دون علم اليد اليسرى. بيد أن مغني الروك والراب في الغرب يريدون أن
يبرهنوا أن لديهم وعياً كونياً يتجاوز حدود معرفتهم بأرقى المطاعم والحانات
والفنادق في العالم، ليلامس وعيهم أدنى الجحور الملوثة التي يحيا بداخلها فقراء
أفريقيا متساكنين مع المرض والآفات والحشرات. هذا “الوعي الكوني” لم يهبط إلى مجرد
التهريج والتباكي على المنكوبين، ذلك أنه قد تصاعد على ألسنة المطربات والمطربين
ليترجم إلى مصطلح سياسي هو: السياسة تقف خلف الموسيقى، أستعملت من قبل الإعلام
للترويج لهذه الحفلات التي شوهدت من قبل الملايين في بهدف تحقيق ما لم يتمكن بعض
الأنبياء والمصلحين من تحقيقه عبر التاريخ: فعلى سبيل المثال، ظهرت المغنية
الشهيرة مادونا المعروفة بأريحيتها وبـ”تفتحها” الزائد على المسرح لتدعو الجمهور
إلى “إلغاء” الفقر، مستفسرة بصوت عالِ: “هل أنتم مستعدون لتغيير التاريخ؟”، بينما
تبعها مغنٍ آخر ليعلن “يجب إنهاء تاريخ الفقر” !
وإن كنت أنسى، فلن يغيب عن ذاكرتي أن
واحداً من مغني “الراب” الملونين والمشهورين بالأغاني البذيئة وبالتصويرات الخليعة
وهو يعاني من آلام “يقظة” الضمير، مبتئساً لأوضاع جياع العالم ومقرراً (قرار نهائي
حاسم): “لا ينبغي أن يموت إنسان من الجوع في القرن الحادي والعشرين”، كي يرتجع إلى
الغناء البذيء على دق الطبول الفوضوي وهز البطون العارية ! ثمة مغنٍ آخر رأى أن
يمنح نفسه بُعداً فكرياً وسياسياً أعمق من أقرانه، فقرر أن يلقي بياناً قبل أن
يرقص على أنغام أو آلام الفقراء” السمر. لم يفتقر هذا “البيان” للإحصائيات التي
أريد لها تعريض الجمهور الراقص في فيلادلفيا لـتوجيه “رجة وعي” عنيفة، خاصة بعد
الإعلان عن أن أكثر من نصف الأفارقة هم تحت سن الخامسة عشرة، وهم يخلدون للنوم
جياعاً”! فيالها من حقيقة جارحة لهذه الجموع من المستهلكين الجيدين لشطائر “ومبي”
و “ماكدونالد”، هؤلاء الذين يعانون ويدفعون ملايين الدولارات لمعالجة البدانة
والسمنة المعيقة.
أما الفنانة “إنجليانا جولي”، فقد حسمت
الموضوع بضربة معلم، كما يقال، عندما أعلنت أن “الموسيقى هي أقوى قوة”، بمعنى أنها
عدت نفسها مع زملائها وزميلاتها من المطربين والفنانين والراقصين أقوى تأثيراً من
الساسة والحكام ومديري الشركات العابرة للقارات والحدود، راجيةً الجمهور أن يجعل
الفقر جزءاً من التاريخ الذي لن يتكرر. وهي البشارة.
ليس للمرء أن يشكك في إخلاص عواطف
هؤلاء الفنانين، أو في عواطف الجمهور المتألم بسبب معضلة الفقر في العالم، بيد
إنني أجد في هذا الجهد مفارقة هي مدعاة للتندر من قبل ملايين فقراء العالم الذين
ربما تصلهم وجبة غذائية واحدة فقط كنتيجة نهائية لهذه الحفلات العالمية. أما
المفارقة الأظرف، فإنها تتلخص فيما يقدمه هؤلاء المطربون الغربيون من برامج مصورة
عبر الفضائيات للحياة الأسطورية التي يعيشونها في منطقة “بيفرلي هلز” وفي أجمل
بقاع العالم، حيث يحيون حياة بدرجة من الترف والبذخ أن اباطرة العالم يحسدونهم
عليها. نعم، الشعور بالألم من أجل الفقراء هو حال طبيعية لدى كل إنسان. ولكن، ألم
يتساءل هؤلاء المطربون، الذين تمتد قصورهم وضياعهم عبر هكتارات، عن الجدوى
الحقيقية لجهدهم في هذه الحفلة؛ وهل هم مستعدون للتضحية بليلة واحدة من احتساء
المشروبات وتدخين الماريوانا وتناول الكافيار من أجل وضع قدمي طفل أفريقي واحد
لأول مرة في مدرسة منتظمة ونظامية ؟ لقد بقي هذا الجهد دعائياً بكل تأكيد، ولم يكن
جهداً عملياً يمكن ترجمته إلى تحسين أوضاع الفقراء، بالرغم من أثر الشعارات التي
رفعت على خلفية لمسرح يحمل صورة للمسكين “كارل ماركس”، نصير الكادحين! هذا بكل دقة
ما عبّرت عنه وزيرة بريطانية سابقة، حيث طالبت الفنانين بإيضاح الكيفية التي سيتم
من خلالها رفع مستوى الفقراء إلى مستوى الأغنياء.
يتوجب على المرء أن يوضح أنه لا يريد
أن يهاجم هؤلاء الفنانون، بقدر ما يرنو إلى إيضاح “لا جدوى” ونفاق هذا الجهد الفني
الذي (كما يعرف الفنانون جيداً) لا يمكن أن يمد يد العون العملية للفقراء. لذا
تتوافق لا جدوى هذا الجهد مع نوع من الإدانة الضمنية للشعارات التي رفعت، خاصة تلك
التي أعلنت نهاية الفقر في القرن الحادي والعشرين. أما إذا ما كان هؤلاء الفنانون
يريدون أن يوصلوا أصواتهم الاحتجاجية إلى زعماء الدول الغنية، فإن في الأمر دلالة
أخرى، خاصة إذا ما توقعنا من الزعماء بأن يحيوا تجربة “يقظة” وعي بالفقر والمرض
المنتشرين في مختلف أنحاء العالم، وليس في أفريقيا فقط.
وهكذا تتبلور القضية التي تستحق الرصد
والتحليل بحق، بعد الإجابة على أسئلة بسيطة، منها: لماذا تعاني الشعوب الأفريقية،
مثلاً، من الفقر المدقع ؟ هل أن سبب ذلك يعود إلى أن البيئة في إفريقيا ذاتها
فقيرة؟ وإذا كانت البيئة هناك فقيرة، فهل يصح هذا على شعوب جنوب شرقي آسيا وشعوب
أميركا اللاتينية، وسواها من شعوب العالم الفقيرة؟ لقد توجب على الفنانين أن يضعوا
النقاط على الحروف، ذلك أن أهم مسببات الجوع لدى هذه الشعوب يتمثل في حركة الاستعمار
الغربي التي صادرت ثروات هذه الشعوب بلا هوادة، تاركة لهم القشور و”فضائل” العوز
والفاقة. بيد أن أحداً من الفنانين لم يمتلك الشجاعة الكافية لأن يضع المسؤولية
على الكولونياليات والإمبراطوريات الأوربية التي استعمرت هذه الشعوب والبلدان
لقرون وضمتها إلى إمبراطورياتها، ولم تتركها (إن تركتها) إلاّ بعد أن جعلت شعوبها
ضحية لهذه الأمراض الاقتصادية والاجتماعية الفتاكة التي جاء المطربون الغربيون
ليذرفوا الدموع على أطلالها بعد قرون من الاستغلال والاستثمار. لم أسمع أحداً من
هؤلاء وهو يؤشر بإصبع الإتهام إلى دولته أو إلى الدول الغربية الأخرى التي لم
تُبقِ شيئاً من الثروة للشعوب الفقيرة.