بقلم: ا.د. محمد الدعمي
تنبع مخاطر الحروب الأهلية من أنها
تمثل ارتطامات بين كتلتين سكانيتين بشريتين تتشاركان العيش في دولة واحدة. وإذا ما
حاول المرء إجراء مسح، وإن سريع وقصير، على الوضع الراهن عبر العالم، فإنه لا بد
وأن يقتنع (معي) بأن هذا العصر الجاري إنما يستمد صفته المميزة مما يشوبه من حروب
أهلية في معظم القارات، حرائق مدمرة تندلع هنا وهناك من آن لآخر، للأسف، آتية على
أرواح عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في خضمها.
بل إن الأغلبية الأعظم من ضحايا هذه الحروب إنما هم من الأطفال والشيوخ والنساء
الأبرياء.
إن مسببات الحرب الأهلية ليست ببعيدة
المنال، خصوصا وأن بواعثها هي الانقسام الكتلوي بين جزأين سكانيين رئيسيين من
الشعب الواحد: كالبروتستانت والكاثوليك في المملكة المتحدة، والأقلية اليسارية
الحاكمة في فنزويلا مقابل الأغلبية الجائعة من عامة الشعب، وبين العرب والكرد أو
الترك والكرد عبر دول الشرق الأوسط، العراق وتركيا وإيران بخاصة.
الانقسام الكتلوي يؤدي إلى ارتطام
كتلوي مهول، بطبيعة الحال. وإذا لم يكن هناك عقل مدبر، محب للسلام وصانع له في
الدولة المعنية فإن الحرب الأهلية تكون أشبه بالقاتل الصامت، لأنها تنتج تراكمات
بطيئة قوامها الضغائن والثأر والانتقام، ولكن ذات دمار شامل. لذا، توجب على
الحكومات تدارك مسبباتها بالسرعة الخاطفة حالما تلوح بوادرها هنا أو هناك على
الأفق بأشكال متنوعة ومتفاوتة الآثار اجتماعيا واقتصاديا.
وإذا لم يكن العقل المدبر في الدولة
بدرجة كافية من الوعي لمخاطر الحرب الأهلية، فإنها واقعة بلا ريب، وهو قد لا ينجو
شخصيا من لهيبها. ربما كان خير مثال على ذلك هو رفض الجنرال عبد الكريم قاسم
الاستجابة لمطالب المتظاهرين يوم الانقلاب على سلطته (8 فبراير، 1963) خشية تفجر
حرب أهلية، إذ طالب هؤلاء بــ”يا كريم أعطنا سلاح/باسم العامل والفلاح”. وعندما سأله
أحد مرافقيه لماذا لا تستجيب، سيادة الزعيم، لمطالب الجمهور القادم لحماية مقره
بوزارة الدفاع المعروفة آنذاك بـ”عرين الأسد”، أجاب بأنه لا يوافق على مد الجمهور
بالسلاح لمقاومة الانقلابيين وحماية رأسه خوفا من نشوب حرب أهلية. وهكذا، قضيت
صفحة رهيبة من تاريخ العراق بتجنيب الجنرال قاسم الشعب حربا أهلية، مضحيا بنفسه
بدلا عن ذلك.
والحق، فإن أكبر مخاطر الحرب الأهلية
إنما تكمن في إمكانيات توسعها عموديا وأفقيا، نظرا لمصالح المستفيدين الداخليين من
نشوبها وتوسعها، وبسبب إمكانيات التدخلات الأجنبية. علما أن هناك العديد من حكومات
العالم التي غالبا ما تعبر عن استعدادها لتغذية أية حرب أهلية في الدولة الخصمة
الجارة أو الدولة المعادية، إذ تكون البوادر المبكرة لنشوب الحرب الأهلية بمثابة
دعوة لها ولدول أخرى للاستثمار بأرواح ورفاه الدولة المعرضة لمثل هذه الحرب التي
لا تبقي ولا تذر! لذا فإني أزعم بأن صناعة السلام وتجنب الحروب الأهلية الشاملة
التدمير إنما تكمنان أولا وقبل كل شيء في عملية منع التدخلات الأجنبية على سبيل
العبث بمصائر الشعب الواحد، لصالح أية كتلة تدخل حربا أهلية لأن مثل هذا التدخل
يشبه صب الزيت على النار!