بقلم: أ. د. محمد الدعمي
حالما نزلت في ولاية أريزونا/الولايات
المتحدة الأميركية، لم أفلت من ملاحظة تشابه جغرافية ومناخ هذه الولاية الجنوبية
مع مناخ وطبيعة العراق (مسقط رأسي)، فالمناخ هنا “قاري”، بمعنى الكلمة (بارد ممطر شتاءً،
وحار جاف صيفا). لذا، فقد شكرت صديق أميركي (في دخيلتي) كان قد اقترح عليَّ
الاستقرار في هذه الولاية، بل إن ما زاد من امتناني له هو وقوع الولاية (كما هو
حال العراق) خارج حزام الأعاصير وحزام الهزات الأرضية المدمرة، زيادة على بُعدها
عن الولايات التي عرفت بتكرار الكوارث الطبيعية الأخرى، ناهيك عن بُعدها عن
الولايات المتجمدة، شمال أميركا.
إلا أن أطرف ما اكتشفت، من بين أوجه
الشبه، إنما كان وجود مدينة باسم “بغداد” Bagdad
(ذات التهجي المستعمل في اللغات الأوروبية، ولكن بلا h)،
فضحكت في دخيلتي، هامسا مع نفسي “آه، يا حبيبتي يا بغداد! أعود إليك مهما بعدت
المسافات. الفرق بين بغداد الأصل (العراق)، وبغداد (أريزونا، المحاكاة) يستطيل
استعراضه لفجوة واسعة، يصعب ردمها. وإذا كانت بغداد التاريخ هي ماسة مدائن العصر
الوسيط كونيا Cosmopolitan،
فإن بغداد “الجديدة”، في ولاية أريزونا الأميركية، لا تزيد على كونها بلدة صغيرة،
ربما تكون قد ولدت من مجاميع سكانية فقيرة كادحة صغيرة، جلها من عمال المناجم
وعوائلهم البسيطة. وإذا كان لبغداد المنصور والرشيد والمأمون بيت للحكمة على أوج
العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، فإن لبغداد أريزونا بضعة مقاهٍ ومنازل
وأسواق وتاريخا يمكن اختزاله بنصف صفحة من النثر الجيد. الأخيرة، هي مدينة تكونت
أصلا حول منجم نحاس عملاق كان قد جذب رأس المال، سوية مع قوة العمل للاستثمار في
استخراج النحاس وتسويقه. هذه مدينة يتواشج تاريخها بالتغير الصناعي في أميركا، هي
بلدة تخلو من كل ما له صلة بالثقافة أو الفنون، على عكس بغداد العراق اليوم، لأنها
تزخر بالمسارح ومعارض الفنون وقاعات عرض الأزياء والمدارس والجامعات.
وقد دفعني حماسي لبغداد الأصل، مسقط
رأسي، لأن أخاطب الجمعية التاريخية لولاية أريزونا عن الكيفية التي اكتسبت بها
بلدة المناجم هذه عنوان أعظم حواضر العصر الوسيط، إلا أني قد أصبت بخيبة أمل نتيجة
لإخفاق “جهابذة” الجمعية التاريخية أعلاه في الإجابة على سؤالي، الأمر الذي قد
يتطلب اضطلاعي ببحث هذا الموضوع الطريف شخصيا في المستقبل، خصوصا بعد أن سمعت
بوجود “بغداد” أخرى في ولاية كاليفورنيا، وبمدينة باسم “الرافدين” Mesopotamia في ولاية ثالثة. وإذا
كانت “ميسوبوتاميا” هذه مدينة تسكنها أقلية دينية أميركية، بقي الاستفهام يراودني
بل ويؤرقني عن أصول ودوافع انتقاء مثل هذه التسميات: فاكتشفت عددا لا بأس به من
أسماء مدن شرق أوسطية كالإسكندرية وسالم (جيروسالم)، من بين سواها كثير، موجودة في
أميركا اليوم.
لذا، قررت عدم الخوض في تتبع أصول هذه التسميات
لأنها، بكل تأكيد، ستستهلك سني حياتي بحثا واستقصاءً في مواضيع لم تعد تهم أحدا من
الأجيال الجديدة الصاعدة، وإذا كانت “نيويورك” تشبه بــ”بابل” العصر الحديث، فإن
الأهم من دلالات جمهرة الأسماء والعناوين الأميركية، إنما هو شعور العقل الأميركي
منذ بدايات وعيه بالذات وبالهوية الأميركية المستقلة بأنه هو وريث “العالم
القديم”، وبأن الذهاب إلى “بابل” و”بغداد” الأصل واحتلالهما إنما هو تعبير “العالم
الجديد” عن حنينه إلى منجزات “العالم القديم” حيث طبع أول حرف على ألواح الطين
ودارت أول عجلة في “سومر” و”أور”، مسقط رأس أبي الأنبياء، سيدنا إبراهيم الخليل.
الرئيسية