بقلم د. عمر السلخي
تخطيط بلا سيادة.. منذ توقيع اتفاق أوسلو، قُسّمت الضفة الغربية إلى
ثلاث مناطق (أ، ب، ج)، لتُبقي "المنطقة ج"، والتي تشكّل أكثر من 60% من
مساحتها، تحت السيطرة الإدارية والأمنية الكاملة للاحتلال الإسرائيلي، في هذه
المساحات الواسعة والغنية بالموارد، يواجه الفلسطينيون واحدة من أعقد إشكاليات
التخطيط المعاصر: كيف تخطط لمكان لا تملك السيادة عليه؟ وكيف تؤسس لمستقبل على أرض
مُعرّضة في أي لحظة للمصادرة أو الهدم أو الإخلاء القسري؟
في هذا السياق، يكشف التخطيط العمراني
في المناطق (ج) عن أزمة مركّبة تتجاوز البُعد الفني إلى البعد السياسي والقانوني،
وتُلقي بظلالها على قدرة السلطة الفلسطينية والهيئات المحلية والمؤسسات الأهلية
على صياغة مستقبل حضري وإنساني للمجتمعات المحلية، في ظل الغياب التام للقدرة
التنفيذية أو التحكم في المصير.
التخطيط كأداة استعمارية: "الإدارة المدنية" في موقع القرار
تُدار المناطق (ج) من قبل
"الإدارة المدنية الإسرائيلية"، وهي ذراع عسكري-مدني تابع لجيش
الاحتلال، بموجب هذه الإدارة، تخضع قرارات التخطيط والبناء، وحتى الموافقة على
تطوير البنية التحتية، لموافقة الاحتلال، وهو ما ينتج عنه واقع من "السيادة
المنقوصة" أو "التخطيط بالتقييد".
وتُظهر بيانات مكتب الأمم المتحدة
لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن أكثر من 98% من طلبات تصاريح البناء الفلسطينية في المناطق (ج) يتم
رفضها، بينما تتم الموافقة على مخططات المستوطنات بوتيرة متسارعة، مما يؤكد أن
التخطيط يتحول إلى أداة لضبط السكان وتقييد تمددهم الجغرافي، في مقابل توسيع
المشروع الاستيطاني، الأخطر هو التحولات في تركيبة الإدارة المدنية والتي أصبحت
معظم مراكز القرارات فيها يقودها عدد من المستوطنين المتدينين ، وبالتالي أصبحت
الأداة التي يتم استخدامها من قبل المستوطنين ومجالس الاستيطان لتمرير القرارات
والسياسات التي تخدم الاستيطان في الضفة الغربية وتضيق على الفلسطينيين؟
السلطة الفلسطينية: تحديات غياب النفوذ التنفيذي
رغم وجود وزارة الحكم المحلي والهيئات
المحلية، وهيئات التخطيط الفلسطينية، إلا أن هذه المؤسسات تعمل ضمن إطار هش من
الصلاحيات المنقوصة في المناطق (ج)، ما يجعل دورها محصورًا في إعداد "مخططات
غير معتمدة"، تُستخدم في بعض الأحيان كوثائق ضغط سياسي وليس كأدوات قابلة
للتنفيذ الفعلي على الأرض.
وبالتالي فان السلطة الفلسطينية عاجزة
عن تنفيذ خطط تطوير حقيقية في هذه المناطق دون دعم دولي قانوني وسياسي، ولا تمتلك
أدوات الحماية المجتمعية الكافية في مواجهة سياسة الهدم والمصادرة، مما جعل
الفلسطينيين مجبرين على ممارسة نوع من "التخطيط المقاوم"، القائم على
تحدي واقع الاحتلال بإقامة مشاريع في ظل انعدام الموافقة الرسمية، بسبب الزيادة
الطبيعية للسكان وعدم توسعه المخططات الهيكلية للهيئات المحلية منذ فترات طويله.
المجتمع المحلي: بين المبادرة الذاتية وغياب الدعم
في ظل هذا الفراغ في السياسات، يلجأ
السكان المحليون إلى حلول ذاتية – كالبناء غير المرخّص، أو ترميم البنية التحتية
بجهود تطوعية – لكن هذه المحاولات غالبًا ما تُقابل بالهدم من قبل الاحتلال، كما
حدث في حالات متعددة في قرى في معظم قرى وبلدات محافظة سلفيت من الزاوية الى دير
بلوط وكفرالديك ومؤخرا هدم منزلين في بلدة بروقين، وهي المناطق التي تعتبر امثلة على "التخطيط
من الأسفل" أو ما يُعرف بـ Bottom-up Planning ، ومع ذلك، فإن هذه المبادرات تفتقر إلى الاستدامة في ظل غياب
الاحتضان المؤسسي والدعم القانوني، ما يجعلها عرضة للفشل أو التحول إلى عبء إضافي
على المجتمعات المنهكة أصلاً من العزلة والتهميش.
الاستيطان مقابل التنمية: ميزان مختل
بينما تُمنع البلديات والقرى الفلسطينية
في المناطق (ج) من توسيع مدارسها أو شبكات الطرق أو تقديم الخدمات الأساسية، تستمر
حكومة الاحتلال الاسرائيلي في تنفيذ مشاريع تخطيطية ضخمة في المستوطنات، وعملية
تسمين لهذه المستوطنات القائمه اخرها انشاء الحي الغربي لما يسمى مستوطنة ارئيل
والذي يضم 11 الف وحده سكنية ناهيك عن تأسيس بؤر استيطانيه جديده وتزويدها بخدمات
البنية التحتية من شق طرق وتعبيد وشبكات كهرباء وماء كما في البؤره الاستيطانية
المقامه حديثا على أراضي قرية فرخه غرب مدينة سلفيت ، و تشير تقارير منظمة "بتسيلم" إلى أن
مساحات البناء في المستوطنات زادت بنسبة 300% في العقد الأخير، معظمها في مناطق
(ج)، في حين أُجبرت عشرات العائلات الفلسطينية على هدم منازلها أو دفع غرامات
باهظة بسبب البناء "غير القانوني" وفق قوانين الاحتلال (B'Tselem, 2023).
نحو استعادة أدوات التخطيط: ما العمل؟
إن كسر معضلة "التخطيط بلا
سيادة" يبدأ من خلال:
بلورة سياسة فلسطينية مركزية واضحة
للمناطق (ج)، تنقل الملف من هامش الجدل السياسي إلى صُلب القرار الوطني.
تدويل قضية التخطيط، من خلال ربطها
بمفاهيم القانون الدولي الإنساني وحق الشعوب في التنمية.
توسيع أدوات التخطيط الشعبي، بإشراك
المجالس المحلية والجامعات ومنظمات المجتمع المدني في إنتاج مخططات واقعية تعزز
الصمود، حتى لو لم تُعتمد رسميًا.
الضغط الدولي من أجل مساءلة الاحتلال،
على سياسات الهدم والتمييز في منح تصاريح البناء وتقييد التنمية.
إعادة تعريف السيادة
لا يمكن الحديث عن "دولة
فلسطينية" دون الحديث عن التخطيط، فالتخطيط هو أداة سيادية بامتياز، وإذا ما بقي الفلسطينيون محرومين من تخطيط
أراضيهم، فإنهم سيُقصون من خريطة الجغرافيا السياسية مستقبلًا، وعليه، فإن إعادة تعريف السيادة الفلسطينية يجب
أن تمر عبر تحرير أدوات التخطيط، وتحويلها إلى أدوات نضال وليس بيروقراطية عاجزة.