حسين الرواشدة
أأنت عربي؟ إذا ينتابك الخجل مما يحدث حولك، او ربما فقدت حواسك فما عدت قادراً على التميز بين الدماء التي تسفك والمياه التي تجري من تحت قدميك، ربما فقدت عقلك ايضاً، فما أجمل أن تقف في طوابير المجانين لكي تضحك وقلبك يعتصر ألما، ضحك كالبكاء، ومتى كان العربي يستطيع ان يمارس الفرح وهو يمشي فوق ارض مليئة بالأحزان، أو وهو يتذكر تاريخيا مزدحماً بالكوارث، او وهو يعيش عصوراً من السقوط والانحطاط.
ارجوك، اعترف بأنك فقدت “الدهشة” تماماً، لا شيء ابداً يثير احساسك، هذه الاعاجيب التي تراها في بلاد “العربان” تدفعك الى شيء واحد وهو “الغثيان”، تماماً مثل أي مريض هدّه المرض فما عاد قادراً على الحركة، او مثل يتيم أتعبه اليتم وانقطعت به أسباب الحياة، او مثل تائه ظلت اقدامه في صحراء ليس لها ابعاد.
الان بوسعك ان تتذكر الأناشيد التي حفظتها حين كنت صغيراً: “بلاد العرب اوطاني”، اموت ويحيا الوطن، ارفع راسك انت عربي، امة واحدة ذات رسالة واحدة، اين هي اليوم في واقع يقتل الأخ اخاه، وأمام خرائط حولت الوطن الواحد الى دول وطوائف ومذاهب، والعواصم الى مقابر، والانسان الى وحش كاسر، وقصائد الحب والفخر الى توابيت ورثائيات وبيانات توزع الكراهية في كل اتجاه.
انت عربي، يا لها من مصادفة، ان تكون تنتسب لأمة عظيمة قدمت للإنسانية أفضل ما يمكن لأمة ان تقدمه ،ثم تكتشف بانك في لحظة تخجل من هذا النسب، او تشعر ان نظرات العالم تطاردك وكأنك جمل “أجرب”، يا لها من مفارقة ان تنام على رصيد من الإنجازات المشرقة، ثم تصحو وقد افلست تماما ، فما عاد لك دور ولا مكانة محترمة بين الأمم والشعوب الاّ بقايا “شفقة” تتآكل يوماً بعد يوم.
حدّق في المرآة ستري وجها ممسوخاً لا تكاد تعرفه، وعيوناً ترى ولا تبصر، وبداخلك اشخاص متشاكسون لا تعرفهم، تسأل لماذا فيأتيك الجواب: احلامك التي تكسرت على صخور الظلم واليأس والخوف كان وراءها أنظمة سياسية استرخصت دمك وتعبك وحياتك، ونخب ركبت موجة الثقافة والوعي فقادتك الى الجحيم، وأحزاب باعتك في مزاد “الوطنية” ـ وآخر متربص بك لا يريد ان ترفع رأسك.
بوسعك ان تسأل بدون اندهاش عن موازين العدالة التي انحرفت او عن اساطير التنمية التي انكشفت اوهامها، او عن “المواطنة” التي طوتها الزنازين والسجون، او عن الحرية التي تحولت الى “مآثم” كبيرة، او عن السياسة التي تعطلت وربما ماتت، او عن الاستقلال الذي ضحى من اجله الآباء والاجدادثم انكسرت غزاوته أمام الإستماتة بطلب “التبعية”.
لن تجد الا عنواناً واحداً وهو “الخيبة” ـ هذه التي أطلقت اجيالاً جديدة بعضها لم يتحمل قسوتها فقرر الانتحار او الانعزال، وبعضها هرب الى “قمقم” التطرف لينتقم من نفسه ومن المجتمع، وبعضها ما زال ينتظر الفرج الذي يبدو انه ما زال بعيداً.
لا تيأس، ارجوك، مما يحدث، ومما هو اسواً قد يحدث، ثمة اخرون مرّوا بهذه التجربة أيضا، في روما واثينا وفيينا وبرلين كانت الشوارع تكتظ بالجثث والدماء وصلت الى “الركب”، كانت الحروب على تخوم الدين الواحدة تستمر لثلاثين سنة او اكثر، كان الملايين قد سقطوا في حروب الصراع على الحكم والدولة والنفوذ والثروة، هؤلاءادركوا بعد ان تعبوا من هذا الجنون انه لا مناص من “التوافق” على حل فخرجوا بثوراتهم الصناعية والفكرية والدينية، وتحت لافتة الديمقراطية والتعددية والمدنية انتجوا “التحضر” الذي صنع حضارتهم، والسلمية التي صانت ارواحهم ودمائهم.
لن يتوقف المسلسل العربي عند هذا المشهد الحزين، مهما تلبدت سماؤنا بغبار الكراهية والموت والدمار، ثمة “امل” سيبدد كل هذه القتامة، فمن بين تراكمات التاريخ وانسداداته سيحدث “الانفجار” الذي يقلب المشهد رأساً على عقب، وستنتصر إرادة الناس والحياة على إرادة الظلم والموت، وستلد الأرض غراساً جديدة تعيد اليها الربيع الذي اختفى، وستقوم قيامة “العربي” الي تجرع المرارة وصبر، وسيعود المهجرون على سفن الموت الى مرافئ اوطانهم، وستنتهي لعبة الإرهاب التي خنقت انفسانا...ربما سيطول الانتظار وتوجعنا المخاضات لكن “ساعة” الفرج لا بد قادمة...بإذن الله.
عن الدستور