يبدو أن “العين الحمرا” التي أشهرها
رئيس الوزراء قبل أسابيع أخطأت مسارها وهدفها، فتوجهت إلى المعلمين الذين بيتوا
النية للاعتصام أمام وزاراتهم، بدل أن تتوجه إلى التجار والصناعيين الذين ضغطوا على
زر الأسعار، فارتفعت بشكل غير معقول، كان يجب على الحكومة بالطبع، أن تستدعي
القانون وأن تبسط هيبته على الجميع، لكنها -للأسف- تعسفت باستخدامه ضد طرف لا يشكل
أي تهديد على أمننا الاجتماعي والوطني، فيما تراخت بتطبيقه، كما تفعل الحكومات
دائما، حين يتعلق الأمر بأولويات الناس، وما يمس حياتهم بشكل يومي.
هذه المفارقة، للأسف، لا تتعلق، فقط،
بازدواجية المعايير، ولا بالإخفاقات التي تراكمت على مدى سنوات، بفعل مسؤولين لا
يجيدون إلا المماطلة والتسويف، ولا يتردد على ألسنتهم إلا لازمة “تحملونا لأسبوع
فقط”، وإنما تتعلق -وهذا الأهم- بحركة عين الإدارة العامة للدولة، بمؤسساتها كافة،
فقد استبشرنا، ونحن ندخل المئوية الثانية، بمرحلة جديدة تنتصب فيها موازين العدالة
أمام الجميع، ونخرج جميعا من مناخات التأزيم والشك وافتقاد الثقة، إلى مناخات
تستلهم قيم الدولة الأردنية التي تأسست عليها، العفو والسماحة وسعة الصدر،
و”الأسرة الواحدة”، وحماية كرامة الأردنيين، لكن ما حدث في الأسبوع الماضي على
الأقل، كان بعكس الاتجاه تماما.
تفاصيل ما حدث حين تم توقيف أكثر من
“مائة” من المعلمين والمعلمات والناشطين، بتهمة التخطيط لاعتصام يهدف للمطالبة
بإعادة المحالين للتقاعد المبكر والاستيداع، أصبحت معروفة، لكن السؤال الذي لم
تسعفني تجربتي الصحفية على مدة أربعين عاما بالإجابة عنه هو: لماذا فعلت الحكومة
ذلك؟ لقد شاهدنا منذ العام 2010 عشرات الآلاف من الاعتصامات، والاحتجاجات السياسية
والمطلبية، انتهت كلها بأقل ما يمكن من خسائر، بالمقابل سجلت الدولة في رصيدها
السياسي أنها “استثناء”، وأقوى من أن تصادر حرية الناس بالتعبير، لم يكن الشارع
“بعبعا” يخيف الدولة، وبالتالي فإن حضوره، بصرف النظر عن الأخطاء التي جرت فيه،
تعكس حضور الدولة وقيمها، وصلابتها وعافيتها أيضا.
قبل أكثر من شهرين (23-1) سمعت من
رئيس الحكومة، أثناء لقائه مع عدد من الكتّاب، وعدا حازما بعدم توقيف أي مواطن
أردني في قضية تتعلق بالحريات العامة، ذكر وقتها أن توقيف عدد من طلبة الجامعات
على خلفية توقيع مذكرة “الماء مقابل الكهرباء” لن يتكرر ، وأن القضاء هو الفيصل،
المشكلة أن ما جرى ليس مجرد توقيف بناء على ممارسة أفعال قد تتعارض مع القانون،
وهي بالطبع ليست كذلك، وإنما بناء على “النوايا” فقط، هذه سابقة لم تفعلها
الحكومات فيما مضى، والأغرب أنها مرت دون أن نسمع من الحكومة أي تعليق (لكي لا
نقول اعتذارا)، كما أنها تضمنت أساليب جديدة لم نعهدها.
بدل أن ندفع هذه التكلفة السياسية
والاجتماعية، كان يمكن حل مشكلة المعلمين ببساطة، وكان يمكن السماح لعشرات
المعتصمين بالوقوف ساعة أو ساعتين، وربما لم نكن بحاجة للاحتجاج أصلا، لو كان
لدينا حكومة وإدارات قادرة على إدارة حوار وطني، ينتهي “بتصفير” الأزمات، والتوافق
على مسارات تعيد لبلدنا عافيته، وتجنبنا الوصول إلى ما وصلنا إليه من أن انسدادات
ومكاسرات لا تخدم بلدنا، ولا تصبّ إلا في مصلحة المتربصين بنا.
بقي لدي كلمة واحدة، وهي أننا أخفقنا
في إدارة الشأن العام، الحكومة ومعها البرلمان وإدارات الدولة الأخرى يتحملون
مسؤولية ذلك، كما أن نخب المجتمع التي ما تزال عاجزة عن الفعل الوطني الحقيقي
تتحمل أيضا قسطا من المسؤولية، ما يحدث حولنا في المنطقة والعالم، وما نحن مقبلون
عليه من أزمات سياسية واقتصادية، يجب أن يحرر ضمائرنا من “غفوتها”، ومقرراتنا من
“شطحاتها”، حماية الجبهة الداخلية والحفاظ على تماسك الأردنيين وهمّتهم، وعلاقتهم
مع دولتهم ونظامهم السياسي، هو “العنوان” الأهم الذي لا يجوز أن تتجاوزه الحكومة
ولا المجتمع أيضا، وهو الهدف الذي يفترض أن تهبَّ لتحقيقه، وتنسجم معه كل القرارات
والإجراءات الرسمية.
عن الغد