من أين يتلقاها الأردنيون، من الحكومات
التي تجلد ظهورهم بالضرائب والرسوم، والمقررات غير المفهومة، أم من الفاسدين الذين
سرقوا أموالهم وأعمارهم ، ثم مدّوا لهم ألسنتهم، أم من بعض التجار الذين ما إن
رأوا “غيمة” الحرب في أوكرانيا حتى فتحوا “مزاريب” تسعيراتهم على مصراعيها، أم من
لشركات التي تمص دماءهم بلا رحمة ، وتسمسر على طعامهم ودوائهم، دون حسيب أو رقيب؟
قبل نحو ثلاثة أعوام، اضطرت الحكومة تحت ضغوطات
شعبية وبرلمانية، آنذاك، لتشكيل لجنة لمراجعة أسعار الدواء، خرجت النتائج بعد شهر
بتخفيض أسعار أكثر من 1000 سلعة دوائية، و90 مستحضرا طبيا، بنسبة تتراوح ما بين
18-68 ٪، لا أحد يعرف، بالطبع، أنواع الأدوية التي شملها التخفيض، ولا فيما إذا
التزمت بها الشركات المصنعة والمستوردة أم لا؟ ما يعرفه المواطنون تماما أن أسعار
الدواء ظلت كما هي، وربما تصاعدت، وأن بعض الأدوية ما تزال تباع في صيدلياتنا
بأضعاف أسعارها في دول مجاورة.
لم يجرؤ أحد، حتى الآن، على فتح هذا الملف بصورة
شفافة، سواء بسبب سطوة ونفوذ الشركات التي تتولى احتكار الدواء والعقاقير، أو بسبب
تواطؤ الحكومات وارتباط مصالح بعض المحظوظين مع هذه الشركات، أو لأسباب أخرى لا
نعرفها، الأخطر من ذلك أن الدواء أصبح يخضع لحسابات التجارة والسمسرة بين بعض
أصحاب المهنة الطبية، على حساب أمراض الناس وأوجاعهم.
أعرف أن قطاع صناعة الدواء من أهم القطاعات الوطنية، فهو
ثاني أكبر مصدّر بعد القطاع التعديني، (بلغت قيمة صادراته نحو مليار دينار العام
الماضي)، كما أنه من أهم المشغلين للعمالة الوطنية( أكثر من 11 ألف عامل مباشر و
130 ألف عامل غير مباشر)، أعرف، أيضا، أن عوامل عديدة تساهم بتحديد سعر الدواء
محليا، كعامل الكلف الاقتصادية، ومحدودية حجم السوق الأردني، ومعيار تسعيرة بلد
المنشأ.. وغيرها، لكن ما أعرفه، أيضا، أن المواطن ليس لديه القدرة على دفع ثمن
الدواء بهذه الأسعار الباهظة، وأن غالبية الأردنيين لا يتوفر لهم تأمين صحي
يساعدهم في الحصول على “طبابة”، تضمن ثنائية الصحة والكرامة معا.
مهما يكن، فمن المخجل أن يخضع سوق الدواء
للمزايدات والاستغلال باسم أمراض الناس واوجاعهم، أو يتجرد بعض الفاعلين فيه من
قيم الإحساس والتعاطف مع المواطنين في مثل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، كما أنه
من غير المقبول أن تصمت الجهات الرسمية عن هذه الممارسات، علما أن الأدوية التي
تشتريها الحكومة، من خلال لجنة العطاءات الموحدة، تباع بأسعار أرخص بكثير مما
يشتريه المواطنون من الصيدليات الخاصة.
لكي نفهم الصورة بشكل أفضل، يمكن أن نتجاوز
الحالة المحلية، التي أشرت لها سلفا، لأزمة سوق الدواء بالعالم، من جهة حجم
الاستغلال والتضليل، وربما الجرائم التي تمارس فيه، إحدى الدراسات في المانيا،
مثلا، أشارت إلى أن 73 ٪ من الألمان يرون أن شركات العقاقير تعاني من سمعة سيئة،
وأنها تستغل المرضى وحريصة على تحقيق الأرباح فقط، دراسة أخرى، جرت في إسرائيل،
أظهرت أن شركات الأدوية تمارس أساليب التخويف وإخفاء المعلومات الطبية، وتلفيق
المعطيات من خلال الترويج والاستطلاعات غير الحقيقية.
قبل ثلاث سنوات ، أيضا، رفعت 40 ولاية أميركية
دعوى قضائية ضد شركة “تيفع”، وهي من أهم الشركات العالمية بصناعة الدواء، وقد ثبت
فعلا للمحكمة أن الشركة تورطت مع منتجي بعض العقاقير بـ” أفعال إجرامية”، لرفع
أسعار نحو 100 نوع من الادوية، وحصلت على أرباح فاحشة.
ما علينا، فنحن في زمن “القاتل
الاقتصادي”، حيث التوحش سمة هذا العصر، ولا قيمة للإنسان، للأسف، الا بما تحفل به
جيوبه وأرصدته من أموال، لكن يبقى من المهم أن نرفع أصواتنا لمطالبة الحكومات
والشركات معا، بالتوقف عن “حلب” المواطن وقهره، وزيادة معاناته، أما كيف؟ فليس لدي
إلا وصفة واحدة، وهي كشف المستور بكل الوسائل الممكنة، لوضع تسعيره عادلة للدواء،
وعدم إخضاعها للضرائب، أو السماح بسوق موازية لاستيرادها كما تفعل بعض الدول
الأوروبية، أو فتح المجال أمام الصيدليات الخاصة لشراء الدواء من دائرة العطاءات
الموحدة.. والباقي عند الحكومة.
عن الغد