بقلم: د. منذر الحوارات
لقد اعتاد الفلسطينيون على مشاهد
المعاناة اليومية من دماء ودمار تسببه قوات الاحتلال الإسرائيلي، كما اعتادوا على
الصمت الدولي وانحياز مؤسساته بشكل صارخ للضغط الأميركي الذي يرفض حتى التفكير في
أن إسرائيل يمكن أن تخطئ، هذا الدعم الأعمى وغير المحدود أدى إلى حرمان
الفلسطينيين من حقوقهم التي أقرها العالم ولكن، في لحظة بدا فيها الأفق مسدودا،
تلوح بادرة أمل تعيد النظر في الاعتقاد الراسخ بأن إدانة إسرائيل في أي هيئة دولية
أمر شبه مستحيل.
جاء ذلك عندما أصدر مدعي عام محكمة
الجنايات الدولية مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال،
ووزير الدفاع يوآف غالانت، كانت هذه المذكرة بمثابة صدمة للفلسطينيين بقدر ما كانت
صفعة لإسرائيل؛ لأنها أشعلت شرارة أمل في نهاية النفق الطويل من الظلم الذي عانى
منه الفلسطينيون.
لكن ما هي تداعيات المذكرة على نتنياهو
ودولة الاحتلال؟ بالنسبة لنتنياهو، والذي حاول دائماً أن يقدّم نفسه كملك إسرائيل
الثاني ومؤسسها الجديد بعد بن غوريون، فإن المذكرة تمثل صفعة قوية تحوله إلى «مجرم
حرب هارب» من وجه العدالة الدولية بدل كل تلك الألقاب، كذلك الحال بالنسبة لوزير
حربه السابق، يوآف غالانت، الذي أصبح شريكاً له في هذا المصير.
الأمر لا يقتصر على الشخصيات المستهدفة
بالمذكرة فقط، بل يطال سمعة دولة الاحتلال، التي طالما روّجت لنفسها كدولة
ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وجيشها كأكثر الجيوش أخلاقية في العالم، هذه
الادعاءات تتناقض كلياً مع مشاهد الدمار الحاقد على الأرض، والأشلاء، والعدد
الهائل من الضحايا من النساء والأطفال، وبالمعايير التي تروجها إسرائيل، تمثل هذه
المذكرة فضيحة دولية قد تفتح أعين العالم على الانتهاكات التي تم التغاضي عنها
لسنوات.
أما بالنسبة للصدى الدولي لتأثير هذه
المذكرة، سيصل صدى تأثيرها إلى الولايات المتحدة، حتى وإن أنكرت ذلك، لأن كل ما
فعله نتنياهو وغالانت كان بعلمها وموافقتها ودعمها. وهذا يضعها في موقف شراكة
ضمنية في الجرائم المرتكبة، مما يمثل تحدياً أخلاقياً وسياسياً كبيراً لها ولسمعتها.
مع ذلك، من الواضح أن الولايات المتحدة
لن تتوقف عن دعم إسرائيل، لكن السؤال المطروح الآن هو: كيف ستتصرف إسرائيل
وحليفتها الولايات المتحدة في مواجهة محكمة الجنايات الدولية؟
الخطوة الأولى بدأت بالفعل عبر التشكيك
في اختصاص المحكمة، بحجة أن إسرائيل ليست عضواً في نظام روما الأساسي، وبالتالي
تجادل بعدم وجود ولاية قضائية للمحكمة على مواطنيها أو على الأراضي التي تدعي
السيادة عليها، كما ستلجأ، بدعم أميركي وأوروبي، إلى ممارسة جميع أشكال الضغط
الدبلوماسي على المحكمة للتراجع عن المذكرة، بالإضافة إلى ذلك، ستشهد الفترة
المقبلة حملة دعائية مكثفة للترويج للسردية الإسرائيلية حول «أخلاقية جيشها»
ووحشية الفلسطينيين.
أما بالنسبة للفائدة المرجوّة
فلسطينيًا، فرغم التشكيك في جدوى المذكرة من قِبل بعض الفلسطينيين، تشير ردود
الفعل الإسرائيلية الغاضبة والتصريحات المتشنجة والمستنكرة للمذكرة والتي تتهم
المحكمة باللاسامية إلى مدى تأثيرها الكبير.
فهي تعزز مصداقية الرواية الفلسطينية
التي ظلت تُردد لعقود بأن إسرائيل تمارس جرائم إبادة ضدهم، كما أن تسليط الضوء
الدولي على هذه الانتهاكات سيزداد، كما أنها تكسر دائرة الإفلات من العقاب التي لطالما
تمتعت بها القيادات الإسرائيلية، مما يعطي انطباعاً بأن العدالة وإن تأخرت، فهي
ليست مستحيلة، وتقوّض المذكرة سمعة إسرائيل دولياً، وتدحض الرواية التي تصف النضال
الفلسطيني بالإرهاب، مؤكدة أنه مقاومة مشروعة.
أخيراً، تمنح المذكرة دفعة قوية للحراك
الفلسطيني أمام المؤسسات الدولية وتعزز التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية، وهو
ما قد يؤدي إلى تصعيد الضغوط على دولة الاحتلال.
لقد أحسنت السلطة الفلسطينية عندما
انضمت إلى محكمة الجنايات الدولية في عام 2015، رغم المعارضة الشرسة من إسرائيل،
كما أحسنت عندما حركت الدعوة بهذه الصيغة،
فمذكرة الاعتقال خطوة صغيرة لكنها مهمة في مسار طويل لتحقيق العدالة للشعب
الفلسطيني، ورغم العقبات التي ستواجه تنفيذها، فإنها تسهم في تحريك عجلة المحاسبة
الدولية وتثبت مصداقية الرواية الفلسطينية، لذا، فإن هذه المذكرة، رغم تواضعها،
تحيي بعض الأمل في نفوس الفلسطينيين والداعين إلى العدالة.