بقلم: د. منذر الحوارات
مستفيداً من الصدع الثقافي والصراع على
الهوية تمكن دونالد ترامب من العودة في لحظة فارقة ستبقى ردحاً طويلاً في ذاكرة
الأميركيين والعالم، فما حصل ليس مجرد فوز انتخابي عادي بل انتصار شعبي جارف كرس
الاعتقاد بأن الأميركيين مصرون على الحفاظ على القيم التقليدية ولا يريدون الذهاب
أبعد في الانفتاح، وظهر ترامب كرمز لهذا التحدي وكيف لا وهو الذي واجه أربعة رؤساء
اصطفوا إلى جانب كمالا هاريس ساندتهم منصات إعلامية كبرى، وسبق ذلك عدد كبير من المحاكمات كاد فيها أن يكون نزيلاً لأحد السجون وإلا وبه
يكون نزيلاً لأهم مكان في العالم البيت الأبيض، بالتالي لا يمكن حشر هذا الفوز في
خانة الصراع السياسي فقط، بل إشاراته تبدو قوية على أنه محاولة للتأكيد على هوية
أميركا التقليدية التي ادعى ترامب أنه يمثلها، والتي تتمسك بالعائلة وترفض الذهاب
بعيداً في حقوق المثليين، والمبالغة في حق المرأة على جسدها، والإصرار على رفض
المهاجرين غير الشرعيين على اعتبار أنهم يلوثوا قيم المجتمع الأميركي بقيمهم
وعاداتهم أو باختصار الحفاظ على أميركا البيضاء من التلوث.
كل ذلك في مواجهة رؤية أخرى طرحتها
كمالا هاريس والحزب الديمقراطي تتمحور على فكرة أميركا المتنوعة والمتصالحة مع
الاختلاف والهويات المتعددة الممزوجة في هوية واحدة يعلوها العلم الأميركي، بمعنى
لا يمكن استمرار الحال إلا إذا قررت أميركا الانخراط في عملية قبول لكل من هو
مختلف وبالتالي تقبل هذه الأميركا بالمثلي والملون وحرية المرأة على جسدها بدون
حدود حتى عندما يتعلق الأمر بالتخلص من جنينها، وتقبل أميركا هذه بكل الألوان
وتقبل استيعاب المهاجرين، تمكنت أميركا ترامب من التغلب على هذه بطريقة مثيرة
مستخدمة كل الوسائل ومن أهمها الأزمة الاقتصادية والتضخم والهلع من المهاجرين.
أما القضايا الخارجية فيمكن توقع سلوك
ترامب منها استناداً إلى ماضيه الرئاسي وكذلك خطاباته أثناء الحملة، ففيما يتعلق
بالقضية الفلسطينية فقد انحاز تماماً في ولايته الأولى إلى إسرائيل وأسقط تماماً
القرارات الدولية ومضى قدماً في فرض حلوله الخاصة، والتي بمقتضاها اعترف
بالمستوطنات وضم القدس ونقل السفارة إليها ورفض فكرة عودة اللاجئين كل ذلك أدى إلى
تهميش مطالب الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه، هذا في رئاسته الأولى أما الآن
فيمكن الاستناد إلى تصريحاته في الحملة والتي قال فيها إن إسرائيل تبدو صغيرة على
الخريطة، فإن المخيف في ذلك هو قبوله بضم الضفة الغربية وشمال قطاع غزة، وبالتالي
يؤكد انحيازه المطلق لإسرائيل، أما العدوان على غزة فإنه لن يرفض فكرة استخدام
القوة المفرطة ضدها، ولن يعيقه موقف الأقلية العربية في أميركا حيث سيحاول إرضاء هؤلاء
بالاستمرار قدماً في صفقة القرن ومحاولة تقديم تصريحات مطمئنة لهم.
أما بالنسبة لمنطقتنا فستكون إيران بعد
إسرائيل في مقدمة اهتماماته والتي من المتوقع أن يستمر في سياسة قص أذرعها مع
توجيه ضغط أقصى اقتصادي عليها والذي قد يترافق مع دعم توجيه ضربات إسرائيلية قوية
لمواقع إستراتيجية مهمة فيها، كل هذا للدخول في مفاوضات للحد من تدخلات إيران
الخارجية وردع فكرها التوسعي، أما الخليج العربي فهم على دراية كافية عن الطريقة
التي تمكنهم من أسر قلب ترامب، أما بالنسبة للحروب في المنطقة وبالذات سورية فمن
المتوقع أن يقلص ترامب الوجود الأميركي مع بقاء رمزي لبعض القوات، والأهم في أجندة
ترامب دولياً هو إيجاد حلّ للصراع الروسي الأوكراني والذي وعد بحله خلال أيام لكن
ليس واضحاً كيف، أما أوروبا فترتجف هلعاً بعد تجربتها السابقة معه وتحاول إيجاد
منطقة عازلة تمتص صدماته ولكن فرصتها في ذلك ضعيفة.
عموماً ستكون الصين هي محور اهتمامه
لأنها بالنسبة له هي مصدر الخطر، لأجل ذلك لا بد أنه بحاجة إلى التحالفات
الإقليمية والدولية في سبيل ذلك، وهذا هو السبب الذي قد يعطي بعض التفاؤل في أن
ترامب ربما بسبب تلك المواجهة سيكون بحاجة إلى كل الآخرين مما يجعله مضطراً
للتعاون مع هؤلاء الآخرين بطريقة مختلفة عن السابق، هذا من ناحية، ومن الناحية
الأخرى ترامب لم يعد مستجداً على الرئاسة وبالتالي أصبح لديه الخبرة والدراية في
العديد من الملفات، بالتالي فإن نظرته إلى الكثير من الأمور ستكون أكثر استقراراً،
من ناحية ثالثة قد يعطيه الفوز الساحق الذي حازه إحساساً بأنه أمل أميركا، وهذا
سيجعله أكثراً مسؤولية وأقل هوساً بذاته ونزقه الذي أوقعه وأوقع الكثيرين في مآزق
عديدة، ومع ذلك لا يمكن التنبؤ بسلوك رجل مثل ترامب لديه قناعة أن العناية الإلهية
هي من صعدت به إلى هنا لأجل غاية مقدسة لا يراها إلا هو.
الحقيقة الدولية - وكالات