بقلم: د. منذر الحوارات
أحدث سقوط نظام الأسد المفاجئ واستلام
هيئة تحرير الشام مقاليد الحكم، انعطافة
تاريخية في مسار النزاع السوري تغيرت بموجبه طبيعة القوى المسيطرة على الأرض بشكل
كامل، وهذا يطرح الأسئلة حول طبيعة النظام القادم، وقدرته على البقاء وتحقيق الاستقرار، ومدى قبول المجتمع الدولي
والإقليمي به. فالصعود المفاجئ للهيئة وضعها في مواجهة معضلتين: تتعلق الأولى
بالكيفية التي ستدير بها مجموعة أيديولوجية كل هذا التنوع الطائفي والعرقي داخل
البلاد، والثانية كيف تصوغ منظمة مدرجة على قوائم الإرهاب علاقاتها مع العالم
الخارجي؟ وبالتالي فإن الاختبار الحقيقي للنظام الجديد هو قدرته على تقديم رؤية
سياسية جامعة تتجاوز الموروث المُدمى للحرب وانقساماتها ذات الطابع العمودي، كل
ذلك يقودنا إلى مواجهة السؤال المُلح: هل سيكون النظام الجديد مجرد نسخة من الحكم
السلطوي للأسد ولكن بطابع إسلامي، أم أنه سيحاول بناء دولة تعددية تتسع لمختلف
المكونات السورية؟
في مواجهة الأسئلة السابقة، تبدو
التحديات أكبر بكثير من إمكانية تبسيطها، فهي تبدأ من الداخل السوري شديد التعقيد
بسبب تنوعه الطائفي والعرقي، فهناك العلويون والدروز والأكراد إلى جانب أغلبية
سنية تعتبر نفسها ضحية عقود من التهميش والإقصاء،
وبالتالي فإن بناء شرعية سياسية وسط هذه التعقيدات والتشابك يتطلب بناء
مقاربة شاملة ذات طابع براغماتي يستوعب الجميع، وهذا أمر يبدو بعيد المنال بالنظر
إلى خلفية الهيئة الأيديولوجية، رغم محاولات الجولاني المستميتة لتقديم نموذج أقرب
إلى الإسلام المعتدل أو العلماني قريب من النموذج
التركي، لإقناع المكونات المختلفة، ولكن أغلبية المراقبين يرون أنها ستكون
ذات طبيعة مرحلية وليست نابعة من قناعة حقيقية، أما على المستوى الإقليمي والدولي،
فالمهمة في غاية الصعوبة والتعقيد، فهيئة تحرير الشام ما تزال مصنفة كمنظمة
إرهابية في الولايات المتحدة وعموم الدول الغربية، وهذا يضيق هامش المناورة بشكل
كبير، وستكون العلاقة مع إسرائيل بيضة القبان في رسم ملامح مستقبل الجولاني،
والأخيرة هي التي أزالت الفيتو أمام إنهاء حكم الأسد، فرغم كل التطمينات التي قدمها الجولاني من مثل
أن سورية لن تكون نقطة انطلاق للعدوان على أي من جيرانها، والمقصود هنا إسرائيل،
إلا أن الأخيرة قلقة من التغييرات المتسارعة في سورية، ومن المستبعد والمشكوك فيه
أن تقبل وجود دولة بقيادة أيديولوجية إسلامية متشددة رغم كل المحاولات التركية
لإقناع إسرائيل والعالم بأن النموذج القادم يحمل سمات مختلفة كلياً عما عُرف عن الجبهة.
أما الولايات المتحدة الأميركية، فتبدو
خياراتها محدودة بين رفض التعامل مع هيئة تصنّفها إرهابية، وبين القبول بواقع
سياسي جديد يفرض نفسه بقوة على الأرض، وهي تحاول استغلال هذه الخيارات للضغط على
الجولاني والهيئة لتقديم خطوات ملموسة تثبت قطيعتها مع فكرها السابق، وهذا قد يقود
الجولاني إلى تبني خطاب أكثر براغماتية يركز على بناء صورة مقبولة لنظامه أمام
المجتمع الدولي، ولتحديد مستقبل الجولاني، أمامه خطوات ذات طابع إستراتيجي لكنها
محفوفة بالمخاطر والصعوبات، فبعد السيطرة على العاصمة ومؤسسات الدولة، عليه الآن أن
يوسع نقاط نفوذه إلى مناطق جديدة، مما يضعه في مواجهة مقاومة شرسة من قوى محلية
ودولية، خاصة في الجنوب السوري حيث الحدود الأردنية والحدود مع دولة الاحتلال،
بالإضافة إلى وجود فصائل تخالف الهيئة من الناحية العقائدية ونظرتها إلى مستقبل
سورية وشكل الدولة، وفي الشمال، سيواجه معارضة من القوى الكردية المدعومة
أميركيًا، وربما ينضم إليها لاحقًا قوى النظام التي تسعى إلى تجميع فلولها
للانتقام من الهيئة.
كل تلك الأحجيات اللوجستية والمواقف
الداخلية والدولية تطرح على الجولاني سؤالًا مهمًا، فحواه: هل يستطيع بصفته زعيمًا
سنيًا أن يقدم نموذجًا لدولة مشتركة توفر شرعية لجميع مكوناتها؟ أم أن كل ما يبديه
من انفتاح لا يعدو كونه خطوة تكتيكية للحصول على الاعتراف الإقليمي والدولي؟ الكل
متوجس من أن يكون هذا الانفتاح مؤقتًا، غايته تحقيق مكاسب سياسية ذات طبيعة
إستراتيجية قبل العودة إلى الخطاب الإسلامي المتشدد، عموماً، ما يزال المشهد
السوري معقدًا ومتقلبًا، فلا تزال الهيئة تواجه تحديات هائلة تبتدئ من تثبيت
سلطتها داخليًا وبناء علاقات خارجية متوازنة،
وهذا قد يواجه رفضًا عالميًا للقبول بحكومة في سورية ذات طابع إسلامي في
منطقة شديدة الحساسية جيوسياسيًا.
بينما تضع سورية أقدامها على أعتاب
مرحلة جديدة بعد سقوط الأسد، يريدها البعض مشرقة تنسف إرث الماضي من القتل
والتدمير والتعسف والظلم، يراها البعض الآخر تتلحف بالضباب بسبب تناقض مصالح القوى
الداخلية، وتنافس المصالح الدولية والإقليمية، ورفض الجميع القبول عن قناعة بقدرة
هيئة تحرير الشام على تجاوز إرثها القديم والقفز فوقه وفوق أيديولوجيتها لبناء
دولة قادرة على تمثيل الجميع، وهذا يبقى الباب الموارب الآن مفتوحًا على كل
السيناريوهات، لكن من المؤكد أن المفتاح انتقل من يد روسيا وإيران إلى يد تركيا
وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأميركية.