اعتذر سلفا لكل
قارئ يظن المقال قهقهة صاخبة ماجنة في بيت أجر مفجوع الأهل، وإن كان ذلك قد صار من
الأمور الطبيعية غير المستهجنة في هذا الزمن العجيب. وأقول :
مَن مِنّا عاش
أيام "كارثة" ولا أقول "نكسة" حزيران 1967م، ويقوى قلبه على
تحمّل الذكرى، واستحضار التردّي المريع من شواهق جبال الأحلام إلى مرارة الواقع
الفظيع، ويستوعب عقله ما ترتب على تلك الكارثة من مصائب أفقدت الأمة توازنها،
وكادت أن تمحو تاريخها وحاضرها ومستقبلها لولا صمود فئات من أولي العزم والإرادة
الفتاكة هنا وهناك، التي حاولت النهوض مرارا من كبوتها، والتقاط اللحظة لتصويب
المسار، وإعادة رسم المنهج السليم للحرية والكرامة والحفاظ على العقيدة والهوية؟؟؟
ولأن القلب
الملتاع يحتال أحيانا على ينابيع الحزن والأسى، ويبحث عن سراب التسلّي والسلوى،
فقد وجدتني أتذكر تلك السنين الخوالي من سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الأمة
ما زالت تشعر ببقايا عنفوانها، وتتشبّث ببوصلتها الحقيقية، وكان الفنانون من
الشعراء والملحنين والمطربين يحترمون ذواتهم، ويتنافسون بشرف لتقديم الفن الراقي،
وكان الجمهور عالي الذوق رفيع الشأن، يدرك أن الفن من أصدق المرايا التي تعكس واقع
الأمة وطموحاتها وقضاياها المؤرقة وذائقة أبنائها.
"ميشيل
طعمة" شاعر غنائي لبناني جبلي، عاش بضعة وأربعين عاما فقط، ورحل سنة 1967م
تاركا ثلاثة آلاف قطعة شعرية، تغنى بها ولحنها عظماء عصره من الرحابنة وفريد
الأطرش وعبدالوهاب وصباح ووديع الصافي ونجاح سلام وهيام يونس وفهد بلان وفايزة
أحمد وسعاد محمد وشادية..... إلخ
ولعله كان في
كثير من تلك المقطوعات يتيح لقلبه أن يقطر بوح الأسى على حال الأمة وضبابية أيامها
:
فالحزن الدفين
على الماضي، والخوف الطاغي من الآتي، والقلق الممضّ من الضياع، حاضرة باستمرار في
ثنايا الحروف البائحة النائحة :
" على الله
تعود بهجتنا والافراح...... وتغمر درانا البسمة والأفراح......قضينا العمر ولف طل
و ولف راح....... وضاع العمر هجران وغياب"
والرحيل نحو زيف
الحضارة الواعدة بالوهم، وترك الريف وإضاعة الخيرات والأمان يدقان نواقيس الخطر :
" عالضيعة يمّا عالضيعة...... ودّيني و بلا هالبيعة..... جينا نبيع كبوش
التوت...... ضيّعنا القلب ببيروت...... يا شماتة شباب الضيعة!!"
والآمال بجمع
الشمل، والتنعم بالاستقرار تذيب وجد الكلمات، فتزهر الأمنيات، وتترك في القلوب
آثارا لا تمّحي من الندوب :
" لكتب ع
وراق الشجر...... سافر حبيبي وهجر...... يا حبيبي دخلك عود...... بكفّي غياب
وسفر....."
لكن الحبيب
المفقود غادر إلى الأبد ولن يعود.
ويخلع رداء
الخيال، ويطرق خزان الواقع، فيقول في إحدى مقطوعاته واصفا معاناة اللبنانيين سنة
1974م، وكيف لو رأى حالهم وحالنا هذه الأيام؟؟!!
"شحادين يا
بلدنا..... قالوا عنا شحادين..... مظلومين يا بلدنا...... ايييه وحياتك
مظلومين...... عطشانين يا بلدنا...... والميّة بخمسة وستين......جوعانين يا
بلدنا...... وما عنّا رز ولا طحين...... طفرانين يا بلدنا....... والبنوك
مليانين...... محتارين يا بلدنا...... لمين بنشكي محتارين...... أراضينا للبيع
للأغراب يا بلدنا..... جرايدنا للبيع للسفارات يا بلدنا...... ضمايرنا للبيع
للجواسيس يا بلدنا...... على أونا على دوّي مين بدّه يشتري مين؟؟!!!
وزرا ونواب
للبيع..... مدرا وحُجّاب للبيع...... شعرا وكُتّاب للبيع..... باب وبَوّاب
للبيع..... ليش نسرق ما سألتونا...... بنسرق لأنه سرقونا...... ليش بنبيع ما
سألتونا...... بنبيع لأنه باعونا...... سرقونا الكبار..... باعونا الكبار.....
ونحنا حرامية دروايش صغار صغار صغار صغار......"
وأما عنوان
الأغنية الذي ورد في رأس المقال "بيع الجمل يا علي"، فهو استشراف لعصر
البيع الذي لاحت تباشير شرّه منذ تلك الفترة. والأغنية ألّفها ميشيل ولحنها فريد
الأطرش قبل سنوات قليلة جدا من رحيل كلّ منهما، وغنتها ساحرة ذلك الزمان
"سميرة توفيق" التي هام بدلّها وغنجها وغمزتها عميان القلوب، وزائغو
البصيرة من الشيب قبل الشبان.
وقد لقيت
الأغنية صعوبة بالغة في قبول إذاعتها عندما كانت الإذاعات ووسائل الإعلام تحترم
نفسها وتصون رسالتها، إذ رأى المراقبون آنذاك في كلمات الأغنية مساسا بالكرامة
العربية والإرث الأصيل، فهي تتحدث عن بيع الجمل بما يمثله في الحضارة العربية من
هوية خاصة، ويبعثه من ذكريات المجد الأثيل.... ثم قُبلت الأغنية بعد جهود، وسُمح
بنشرها لتطير في أرجاء العالم العربي كافة، ويرددها المستمعون جيلا بعد جيل.
ولعل ميشيل طعمة
قد اتخذ من كلمات الأغنية محطة لإذاعة إحباطه من واقع أمته، ومنارة تومض للحيارى
التائهين بأننا مقدمون على عصر البيع والتيه والضلال:
" بيع
الجمل يا علي..... واشتري مهرٍ إلي..... كرمي لوّح واستوى...... والعنب طاب
وحِلي"
سيبيع علي سفينة
نجاته ومصدر رزقه، ويدفع مهر غاويته، ويمنّي نفسه بعنب الكرم الذي طاب وتحلّبت له
الألباب.
" يا علي
بيع الجمل...... بيع النعجة والحمَل..... أنا ما عندي أمل...... إلا حبك يا
علي"
إنها الدعوة
المستهترة لبيع الجمل، وإلحاق النعجة والحمَل به، ثم التفرغ لمطارحة الغرام حتى
الهاوية القادمة لا محالة!!
" يا علي
بويَ طمّيع..... شو عندك يا حبيبي بيع...... لو تتأخر أنا رح ضيع..... لا تضيّعني
يا علي"!!!
لكن ميشيل مات
في عزّ شبابه، وفريد الأطرش صاحب القلب الجريح غادر الدنيا بدموعه التي سفحها
ناعيا نفسه طوال حياته، أما سميرة فقد فعل الزمن فيها أفاعيله: ترهّل الجسم
الرشيق، وذبل الوجه الصبوح، وضاعت الغمزة بعد أن تغضّن الجفن وغامت الرؤية. وبقي
الصدى يردد على المدى صرخات الفرقة الببغائية الغبية:
" بيع
..... بيع ...... بيع ...... بيع......."
ولم يخبرنا أحد
من هو هذا الطمّيع الذي يغوينا بأن نبيع له كل شيء..... كل شيء، ثم نتبعه مضبوعين
إلى عالم الغيّ الساحر من زيف الأوهام ولذيذ الأحلام!!
ويضجّ في
أذهاننا سؤال يؤرقنا : هل كان بعض أولي الأمر في عالمنا العربي مغرمين بهذه
الدعوات المغرضة من الترّهات حالمين بأنها طريق النجاة، لنهرول إلى الخصخصات وبيع
المقدرات، وتشميس الأمة بعيدا عن جذورها، وإجاعتها، وسلب إرادتها، وتسليم زمامها
لأعدائها، وخذلان المظلومين من أبنائها.....
ليت ذبيح الكلمة
"ميشيل طعمة" بيننا الآن لنسأله عن مقصوده، فالمعاني المفقودة دوما في
أجواف الشعراء الراحلين الهائمين.