بقلم: د.
حفظي اشتية
كم هو
مؤلم ومملّ تكرار الحديث عما يحدث منذ خمسة أشهر، بل منذ أكثر من مائة عام من قتل
وتدمير وأسر وتهجير واقتلاع شعب من أرضه ومحاولة إفنائه وإنهاء وجوده وطمس هويته
ومحو تاريخه ودينه ومقدساته ولغته....!!!
إنها الحقيقة
الناصعة وسط ركام من الأضاليل والألاعيب السياسية وأوهام السلام.
منذ اليوم الأول من
ظهور فكرة إنشاء هذا الكيان في هذا المكان، تجلّى تلبيس إبليس في تخاريف دينية
تاريخية مضى عليها أكثر من ثلاثة آلاف عام، نفضوا عنها غبار السنين، وأعادوا
إحياءها وبعثها من أعماق العدم، ولبّسوها لفكرتهم الشيطانية التي لاقت هوى عظيما
وقبولا حسنا من الغرب الماكر الذي يناصبنا العداء منذ كان وكنا على هذه الأرض، عبر
تاريخ دموي أليم ممهور بالسمّ من خاتم الزبّاء في تدمر، إلى بطولات ميشع في مؤاب،
وبسالة الأنباط في البتراء، وفتكات خالد في اليرموك وأبي عبيدة في فلسطين، وعقبة
في أقاصي المغرب، وطارق في الأندلس... وكاد عبدالرحمن الغافقي شهيد معركة بلاط
الشهداء أن يحسم الصراع مبكرا وإلى الأبد في مثل هذه الأيام من أواخر شعبان ومطلع
رمضان سنة 114هـ، لولا النكوص للدفاع عن الغنائم لتُبعث آلام أُحُد من جديد،
ويتوقف المدّ العربي الإسلامي على عتبات باريس.
وكانت لهم الغلبة إلى
حين في حروبهم الصليبية الاستعمارية الملبّسة بالدين، لكنهم سادوا ثم بادوا، ولم
يبقَ من آثارهم إلا أنين قتلاهم في حطين وعلى أسوار عكا، ودار ابن لقمان والطواشى
صبيح في المنصورة، والسخرية المريرة من ملكهم الأسير الذليل يتوسل الافتداء.
ثم عادوا مطلع القرن
الماضي ليجوسوا خلال ديارنا بمكرهم وألاعيبهم، وما أخفَوا حقدهم الدفين الذي ندّت
عنه فلتات ألسنتهم لتظهر سخائم قلوبهم، فصرخ اللنبي وهو يدخل فلسطين : الآن انتهت
الحروب الصليبية!! بينما كان غورو يرفس برجله النجسة قبر صلاح الدين في دمشق صائحا
: ها قد عدنا يا صلاح الدين!!
وعاد التاريخ الدامي
جدَعَا من جديد، وزرعوا هذا الكيان في حنايا قلب الأمة، وأطلقوا له العنان ليكون
رأس حربتهم ودسائسهم.
منذ بواكير نشأته،
وهو يردد تخاريفه الدينية، ويستمدّ منهجه من كتبه المحرَّفة التي تنفخ فيه أمجادا
كاذبة، وتفوّقا عرقيا موهوما، وتجعل قتل الأغيار عنده عبادة، وجزءا مكينا من
التاريخ المقدس باطلا، والدين المزعوم زورا.
تراهم يضعون أنفسهم
ــ واهمين ــ فوق كل أجناس البشر، ويمسكون بتلابيب السياسة والاقتصاد والدعاية
والانتخاب، ويجرون مجرى الدم في شرايين كثير من حكام العالم، يطوّعونهم لخدمتهم
وتحقيق مآربهم، والويل كل الويل لمن يعارضهم ويعصي أمرهم.
وتراهم أيضا ــ
مغرورين ــ يمجّدون جيشهم وأجهزتهم الأمنية، ويسربلونهم بآيات البطولة وأساطير
التفوق، والقدرات الخارقة، فينتصرون بالرعب الذي يصرع صدور الخصوم، فيشلّون
إرادتهم، ويزعزعون ثقتهم بأنفسهم.
ويشحنون جنودهم دوما
بترّهاتهم الدينية، ويبيحون لهم فعل كل محرّم لتحقيق النصر، فترى زعماءهم وقادتهم
يستعيدون تعاليم دينية مزيفة عن تحليل قتل البشر رجالا ونساء وأطفالا، وتدمير كل
عمران، وقتل كل حيوان، واقتلاع كل شجر، فتلوح في خيالاتهم ــ وفق زيف أسفارهم ــ
أفاعيل يوشع في أريحا، ونبوءات إشعياء، وأساطير قلعة مسعدة....إلخ
اقتل ثم اقتل ثم
اقتل، واهرب بذلك من عُقَد نقصك وخوفك المرضيّ المستعصي المزمن.
ولتبرير قتلك أمام
هذا العالم، وإخضاع إعلامه الزائف، عليك أن تقتل ثم تبكي كي لا يرى المغفلون فعل
يديك، ويكتفوا بالنظر إلى دموع عينيك، وينبري الدهاقنة للدفاع عنك بأنك ــ أحيانا ــ تحذّر المقتولين قبل قتلهم،
فتمهلهم دقيقة أو دقيقتين لا تكفيان لفتح العينين، ليفرّوا من هول قصفك العاصف
القادم الذي لا يرحم.
قل لهم أن يرحلوا
للوسط، ثم للجنوب، واقصفهم حيث وجدوا.... حاصرهم أكداسا بشرية في العراء بين الماء
والصحراء، وأغلق عليهم آفاق الفضاء وأبواب السماء، وكن رحيما فابكهم قبل أن
تبيدهم، وأبلغهم بأنك ستفعل ذلك مسبقا بهم، ولا تنسَ أن تذكّرهم بأن أحد شيوخ
سيناء يتوعّدهم بالذبح إن فرّوا إليه ولاذوا به لاجئين إلى حِماه.
اقتل حصارا ومرضا
ورعبا وبردا وعطشا وجوعا.... ثم اسمح لفُتات مساعدات أن يتنزل عليهم من الجوّ،
ليقتتلوا عليه، ويتجمعوا حوله، ثم اقتلهم، فلن يتذكر هذا العالم الظالم من المشهد
إلا سماحتك وكرمك ورحمتك بهم!!!
رحماك ربّاه! هذا
الشعب المظلوم في محنة لم يعرفها التاريخ قديمه وحديثه، وليس إلّاك مغيث، وليس
أمامه إلا الصبر فوق الصبر، والصمود تلو الصمود، والتضحية بعد التضحية...
والمقاومة الباسلة هي شعاع النور الوحيد الباقي في ظلمة هذا الليل الطويل الحالك،
وهي التي ستعيد ــ بإذن الله ــ رسم الأمل من غياهب الألم والمعاناة.