تهاجمنا الأحزان في أيلول، ها قد ولّى
الصيف بأحلامه، ورحل قبله الربيع بأوهامه، وبدأت رحلة الذبول والاصفرار والتهاوي،
وجثمت على الصدر جبال من هموم وآلام...
آلام على وطن عربي تربّينا صغارا على
أنه وطن واحد كبير، يمور بالخيرات، وتسكن أفئدة أبنائه آمال بالعزة والوحدة والقوة
والمنعة والمستقبل الباسم.... وها نحن بعد رحيل العمر نصحو على واقع مرير، خسرنا
فيه فلسطين، وتمزق الوطن العربي الواحد إلى أشلاء، ضاعت معظم ثرواته، وتفرّق الشعب
الواحد إلى شعوب وقبائل وطوائف وفئات تقتتل عبثا على الفتات حتى الممات، وتبدّدت
الأمنيات، وتشتت الأبناء تبتلعهم البحار وديار الغربة، ويعطف عليهم الأعداء، بينما
غرق المقيمون في هموم حياتهم اليومية، وإقامة أوَد أسرهم، والكفاح الدائم الدامع
للظفر بأدنى أساسيات متطلبات الحياة، ويذوقون الأمرّين إذا حاولوا الحفاظ على
أبجديات حقوقهم في التعبير عن متاعبهم، والأنين من أوجاعهم، والشكوى من الظلم أو
الفساد في حياتهم.....
ولأن الشجن يبعث الشجن، فقد داهمتنا
ذكريات" فيروز " التي رافقتنا منذ ميعة صبانا، وسكنت خيالاتِنا
الطفوليةَ أغنياتُها الساحرة التي سكبت في أرواحنا العواطف الشجية الراقية، وجلبت
إلى قلوبنا حب الأهل والوطن والطبيعة والأمة العربية الواحدة....، ورحلت أحلامنا
معها نحو لبنان وسوريا والعراق والأردن والحجاز ومصر والأندلس....، وبكينا كثيرا،
وصلّينا طويلا، ونحن نعبر معها شوارع القدس العتيقة، ونشمّ شذى زهرة المدائن،
وننْظم قلوبَنا جدائلَ سلامٍ لأهل الأرض المحتلة، ونشهد عذاب سقوط العدل على
المداخل، ومرارة انتظار الغضب الساطع الآتي.....
وفي حضرة فيروز تصدمنا المقارنة
المؤلمة بين سموّ فنها العظيم على مدى ما يقرب من ثمانية عقود، وبين ما نشهده من
تهافت كثير من فنون هذا الزمان، ويعتصرنا الألم وصورهم المقيتة تتقافز أمام
نواظرنا، وأخبارهم تحتل المواقع تنقل تفاهتهم، فترتدّ قلوبنا سريعا كسيرة نلوذ
بعظمة فيروز، ورفعة أخلاقها، وعمق ثقافتها، وتمسكها بمبادئها، وحفاظها على سوية
منهجها، وشموخ وقفتها وهيبتها على المسرح، ونُدرة ابتسامتها، وتجنبها شبه الدائم
للظهور في وسائل الإعلام، وطيّها جناحها على جراحها، وانتصارها على أحزانها ودفنها
في أعماق قلبها النبيل.
في بيئة فقيرة نشأتْ، يتغذّى قلبها
بالاستماع إلى الأغاني من مذياع الجيران، وما أن برقت أمامها السانحة، حتى أمسكت
بخيوط المجد الحريرية تنسج حكاية نجاح أسطورية، وتعتلي نحو القمة التي كانت
تنتظرها.
يعرفها عُشاقها مطربة ملكت قلوبهم،
لكنْ، قليلون هم الذين يعرفون كم عانت في حياتها، وكتمت جراحها وأنينها :
حياة أسرية متعثرة، خلافات عاصفة مع
"عاصي" الزوج المحب المحبوب، طلاق وانعتاق نحو سديم ألم الفراق، ابنة
ساحرة الاسم والجمال "ليال"، يخطفها الموت قبل أن تبلغ الثلاثين من
عمرها، خلافات مع ابنها "زياد" تدور رحاها في أروقة المحاكم...
أما الألم العظيم المقيم فهو ابنها
"هَلِي"، اختارت له هذا الاسم الأصيل الأليف الودود، لعله يكون لها
الأهل واللمّة والملاذ من نوائب الدهر، لكنه كان جرح القلب النازف الدامي، فقد
أصيب صغيرا بالسحايا، وانهدمتْ قدراته العقلية والحركية، فهو قعيد كرسي متحرك، لا
يسمع ولا يتكلم. رفضت أن تودعه دار رعاية، وأصرت على خدمته ورعايته بنفسها طَوال
عمرها، لتحكي صدق أغانيها عن ملائكية الأمومة، وتضحيات الأمّ السامية، وما زالت
على هذه الحال منذ أكثر من ستين عاما إلى الآن، تكتب كل لحظة سطرا إثر سطر في سجل
التضحية والتفاني، وترسم لوحة خالدة لشخصية الفنان الإنسان.
في عام 1958م تزاحف محبّوها من كل صوب
لشراء تذاكر حفلتها في معرض دمشق الدولي، ثم هجم المرض اللعين على
"هَلِي"، فاعتذرت عن عدم الغناء للبقاء إلى جانبه، فجُنّ جنون الناس
عندما أُعيدت إليهم أموالهم، وأصروا على حضورها..... ليتهم عرفوا سبب غيابها، وقدّروا
نُبل أخلاقها!!
وها نحن نسمع أغانيها، نطرب لها
ونحزن، ونفرح معها ونحلم، لكنْ، ليتنا ندرك هول أحزانها، وقدرتها الهائلة على
تجاوزها، وارتشافها رحيقا تهبه لنا لإسعادنا وإحياء أذواقنا!!!
نردد معها، مثلا، أغنيتها "سلملي
عليه"، ولا نعرف أن كلمات الأغنية سالت على لسان فيروز نفسها ارتجالا، وهي
ترعى ابنها المسكين، وتتمنى لو يسمعها هو، أو تفهم هي ما يريد، بينما تذوب روحها
حزنا لعجزه ولهفا عليه.
آه، ما أنبل أوجاع الصامتين الصامدين
الصابرين المكابرين على آلام الحزن الدفين!!!