بقلم: د. حفظي اشتية
ستون ألفا بين شهيد وجريح في ستين
يوما!! يمرّ الرقم على قلوب المعتدين الجبابرة مرور اللئام، فلا يحرك فيهم ذرة من
إنسانية كانوا قد خدعونا طويلا في الحديث عنها والتبجّح بها.
ستون ألفا لكل واحد أو واحدة حكايات
وأحلام وذكريات وأحباء.... رحل منهم مَن رحل، فارق ظلم الأرض إلى عدالة السماء،
وبقي منهم مَن كُتب له حظ في النجاة ليكمل الحياة مع إعاقته أو آلامه الدائمة،
وذكرياته التي سترافقه طول عمره، تحفر أخاديدها المزمنة في مشاعره.
وبين شهيد وجريح ثمّة قلوب أحبائهم
تعتصر أسى لفراقهم وألمهم، واستقواء العدو عليهم، وتخلّي العالم عنهم، وخذلان عظيم
ألمَّ بهم.
يتخطّفهم الموت زرافات ووحدانا، تتعدد
أسبابه، وتتوحد مصادره وموارده، من البر والجو والبحر، حممٌ تنصبّ على شعب أعزل،
محاصر في حاكورة محجورة بين الماء والصحراء، يتلقى أفتكَ ما أنتجته مصانع الأعداء،
يُلقي بها الجبناء من وراء حصونهم الحديدية، تؤازرهم قوى الشر التي تجمعت من كل
حدب وصوب، وتكالبت عليهم، وعميت منها البصائر وخاب عنها الرشد، وسيطرت عليها روح
الانتقام، فتوالت جرائمها بحجم هزائمها، وخيّم الموت على المشهد :
موت بالأسلحة، موت تحت الركام، موت
بآلام معالجة دون تخدير، موت بجروح نازفة لا تجد علاجا أو معالجا، موت عطشا، موت
جوعا، موت بردا، موت قهرا من رحيل إثر رحيل بحثا عن مكان آمن مزعوم، موت ألما على
فراق أحبة قُتلوا ظلما، موت حزنا وكمدا على أمة هم طليعة الدفاع عنها وعن
مقدساتها، وهي مُنهكَة مكدودة مكبَّلة منكَّلة، تنصرهم بكلام وبكاء وقليل من دعاء
ونزر من دواء، قد خدعها الأعداء قرنا وربع قرن، وتتابعت طعناتهم الغادرة في ظهرها
حتى تكسّرت النصال على النصال، وهي سادرة في أوهامها تتبعهم، وتنشد منهم الودّ والوصال.
يا أعداء العدل والحياة، هذا ما قدرتم
عليه، تواجهوننا بكل صنوف الموت التي جلبتموها لنا، وسيول لا تنقطع من دمائنا،
ونحن نواجهكم ــ مؤمنين بنصر الله ــ بالإرادة والعزيمة، فقد أردنا الحياة
الكريمة، وعزمنا على المقاومة، بعد أن يئسنا من خلاصنا من الذل والمهانة
والاستعباد، والوصول إلى حقنا في أرضنا ومقدساتنا بالمهادنة والمفاوضة، وعبر سلام
سعينا صادقين مخلصين نحوه، وصبرنا على مُرّه وجمره، لكنّ خداعكم وألاعيبكم
وارتهانكم لهرطقاتكم الدينية قتلته عمدا وقصدا دون أدنى رحمة.
لم يبقَ أمامنا إلا أن نواجهكم بإرادة
المقاومة رغم تفاوت القوة الهائل بيننا وبينكم. نواجهكم بعقولنا المبدعة، نصنع
أسلحتنا البدائية بأيدينا، ونعززها بالعزيمة للنيل منكم وإيلامكم.
نواجهكم بتاريخ أمة مجيدة ما هانت
يوما ولا استكانت لعدو، قد تكون له جولة أو جولات، لكنّ الأمور بخواتيمها، وعلى
هذا الثرى الطهور الذي ندافع اليوم عنه ألف شاهد وشاهد على أن هذه الأرض عربية
إسلامية منذ آلاف السنين قبل الميلاد وبعده. وقد مرّ عليها المعتدون والدخلاء
والطامعون من يونان وعبرانيين ورومان ومغول وصليبيين وفرنسيين وبريطانيين، لكنهم
اندحروا عنها جميعا صاغرين، كما سيكون حالكم ومآلكم، ولستم عن ذلك ببعيدين.
نواجهكم بصبر أمهاتنا وأخواتنا
وبناتنا يُشرق الطهر الملائكي في وجوههن، ولا يسيل على ألسنتهن إلا آي الذكر
الحكيم، والحمد والتسبيح، والحث على الصمود، يتفتّت قلب إحداهن حزنا على الأحباء
الشهداء والأشلاء، لكنها تظهر صبرا وتجلّدا وعزيمة عزّت على الخنساء. تخرج من بين
الركام، وأول ما تفعله وسط الهول هو أن تثبّت بيدها الجريحة الحجاب على رأسها
الدامي، فإنْ غلبتْها الغيبوبة سارع كل مَن حولها مِن ذويها ومسعفيها لفعل ذلك
حفاظا على الخُلق الإسلامي، وتاج الشرف العربي.
نواجهكم برجولة أطفالنا وبطولتهم
النادرة، يصبرون على آلامهم، ويتحملون عذابات جراحاتهم، ولا يُنسيهم هول ما هم فيه
أن يسألوا عن آبائهم أو أمهاتهم أو إخوانهم أو أخواتهم، يؤثرونهم على نفوسهم،
ويطلبون إنقاذهم قبلهم، يتجلّدون وهم عطشى جائعون مرتحلون، تنظر إليهم قد عبروا
الطفولة سِراعا يحملون همّ الأهل والوطن والأمة على كواهلهم الكليلة، وبين سواعدهم
الغضّة النحيلة.
نواجهكم بإرادة أطبائنا العظام، يصلون
الليل بالنهار، في قسوة ظروف لا تخطر على البال حتى في الخيال : أرتال تلي الأرتال
من الشهداء والجرحى تتوافد على مستشفيات عزّ فيها الغذاء والدواء والماء والكهرباء
والمرافق..... وغُصّت بآلاف اللاجئين إليها اللائذين بها، وأحاط بها القصف من كل
صوب، والأطباء والممرضون صامدون صابرون مثابرون يداوون ويواسون ويحضنون الأطفال
بأبوّة وحنان، وتلتهم القذائف أجسامهم وأجسام مرضاهم فتلتحم الأشلاء، ويتصاعد
الشاهد والمشهود معا في موكب الشهداء، ويتعالون على جراحهم الخاصة وصدماتهم عندما
يفاجَؤُون بأنّ أبناءهم وذويهم بين الشهداء والمصابين.
نواجهكم بالمسعفين الشجعان النبلاء،
يرتقي منهم الشهيد تلو الشهيد، وهم يطيرون نحو أداء الواجب تحت وابل القصف لسياراتهم،
يبحثون عن أنّات الناجين بين أطنان الأنقاض بأيديهم وأظافرهم ليظفروا برسائس
الحياة من بين براثن الموت.
نواجهكم بالصحفيين أقمار حالك الظلام،
ورُسُل الحقيقة والإعلام، تصطادهم أيادي الغدر شريفا خلف شريف، أو تتعمّد إيذاءهم
في قتل أحبابهم وفلذات أكبادهم، يدفنونهم ثم ينهض أحدهم طودا شامخا نحو
"الميكرفون" ليكمل رسالته ويبلّغ أمانته.
نواجهكم بهذا الشعب الشجاع الفريد
العظيم الصابر الصامد المتّحد المتآخي المتناصرالمتآزر، يقتسم المأوى والرداء وحبة
الدواء واللقمة وشربة الماء وجرعة الهمّ وأنّة الوجع وألم الجرح، ويصيح على
الأنقاض بصوت واحد يصل الأرض بالسماء : "عهد الله ما نرحل".