بقلم: د. حفظي اشتية
جنين، ابنة كنعان، تتكئ على أكثر من
أربعة آلاف عام، تضرب بعيدا في أحشاء التاريخ، شاخ الزمان على عتباتها وهي لم تزل
فتية أبيّة لا تفنى ولا تشيخ، ويتلألأ اسمها على الدوام في رأس قائمة أقدم مدن
الدنيا المأهولة بالسكان منذ بواكير الزمان.
لمعتْ في عهد روما باسم " جيناي
"، وتبعت سبسطية، ووسمتها التوراة بـ " عين جينيم"، ولصق بها اسم
" عين الجنائن " لقرب الجوار مع مرج ابن عامر، وعبرها السيد المسيح عليه
السلام في طريقه إلى الناصرة، ومعالم " بُرقين " تشهد على ذلك مع دير
اللاتين في " الزبابدة ".
احتفى بها المسلمون، ومسجدها العتيق
العظيم يخلّد ذلك، فقد أنشأته " فاطمة أخناتون" ابنة "قانصوه
الغوري" قبل خمسة قرون.
في سنة 1799م تصدتْ مبكرا لجبروت
نابليون، فقاومت زحفه، وأحرقت في طريقه أشجارالزيتون، وأغاظته، ونالت من كبريائه
وغروره، فأحرقها ونهبها، لكنها أشعلت بصمودها وتحديها جذوة النصر، فالتقطتْها
أختها الكبرى عكا، التي ابتلع هدير بحرها أطماع المغامر الجَسور، فعاد جيشه كسيرا
يلعق الجراح، ويدفن الطموح في فلسطين إلى الأبد.
تأسس فيها أول مجلس بلدي سنة 1886م،
ولعل في ذلك ردا كافيا على القادمين الواهمين الزاعمين بأن فلسطين أرض بلا شعب
يمكن وهبها للضائعين التائهين.
مبكرا أدركت جنين خطورة المشروع
الصهيوني وأبعاده الاستطيانية الإحلالية، فتفجرتْ فيها طلائع الثورات، وكانت أحراش
" يعبد " مسرحا لثورة فلسطينية عربية إسلامية سليمة الطويّة، شريفة
المقصد، انتهت بارتقاء الشيخ عز الدين القسام ورفاقه الشرفاء، لكنها خطّتْ خريطة
الجهاد الحق، والمقاومة الباسلة النبيلة.
اجتاحها جيش العصابات سنة 1948م، لكن،
سرعان ما تمت استعادتها باستبسال أهلها، وبطولة الجيش العراقي، وقراره العسكري
الشريف غير المرهون.
وما زالت أرواح أبطال الجيش العراقي
تعطّر المكان في حديقة غنّاء وسط المدينة، تشخص قبورهم شاهدة على شرف العروبة
والدفاع المجيد عن القضية المركزية الأولى.
وكان يمكن آنذاك أن يعاد رسم خريطة
فلسطين عربية من جديد لولا مكر الاستعمار، ودهاء السياسة ومزالقها، وقد صوّر كل
ذلك خير تصوير اللواء الركن محمود شيت خطّاب الموصلي، وكان أحد ضباط الجيش العراقي
الذين اشتركوا في معركة جنين، فألقى قصيدة بعد أن دفن رفاقه، وعددهم 207 من
الشهداء الأبرار، وبعد أن صدرت الأوامر بالانسحاب، فنظر إلى القبور، وبكى، وقال
مخاطبا الناس المجتمعين لوداعهم :
هذي قبور الخالدين فقد قضــــوا شهداء حتى أنقذوا الأوطــانا
قد جالدوا الأعداء حتى استشهدوا ماتوا
بساحات الوغى شجعانا
ورأيتُ معركة يفــوز بنصــرها جيشُ العراق وتُهزم الهاجانا
أجــنينُ يــا بلــد الكـــرام
تجلّدي ما مات
ثأر ضرّجـته دِمــانا
إن الخلود لمن يموت مــجاهــدا ليس الخلودُ لمن يعيشُ جبانا
وتعود جنين إلى الواجهة والمواجهة من
جديد : أسوار لا تقي الأعداء، وأمواج تتكسر عليها إرادة المعتدين، ومخيم من
كيلومتر مربع واحد، وبضعة آلاف ممن غادروا أوطانهم قسرا في أم الزينات، وزرعين،
وأم الفحم، ونغنغية.......إلخ تنصهر عائلاتهم : الجعص، وأبو سرّية، وتركمان،
وجبارين، وعصاعصة......إلخ في بوتقة الألم والأمل والصبر والجهاد والتضحية
والفداء، ودقّ الأبواب المضرّجة بالدماء نحو المرج والعفولة وصفد وحيفا
والطنطورة......إلخ ترتسم على شواهد قبور شهدائهم مقولة الشهيد غسان كنفاني :
احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا
بين زخّات الرصاص.