ورد مؤخرا في بعض المواقع الإخبارية
ما يلي : " أوضحت دائرة الإفتاء العام الأردنية حكم التبليغ عن قضايا الفساد
التي يتعرض لها المواطن أو يشهدها، وواجب هيئة مكافحة الفساد تجاه من يبلّغ عن هذه
القضايا.
وبيّنت الإفتاء أن مكافحة الفساد
وإزالته وحفظ البلاد والعباد من شرور المفسدين من أهم المقاصد لبعثة الأنبياء
والرسل عليهم السلام، والفساد من أعظم المحرمات وأبشع المنكرات التي نهى الإسلام
عنها، ودعا إلى إزالتها، بل هو جريمة من الجرائم التي توجب العقوبة الدنيوية
والأخروية."
وأرسلت دائرة الإفتاء كلاما مطولا مفصلا
معززا بالقرآن الكريم، نجتزىء منه بعض أوامرها ووصاياها : " يجب شرعا التقدم
عن أي حالة فساد مالي أو إداري في الأموال العامة..... وذلك لضرورة الحفاظ على
المال العام من الأيدي العابثة بأمن الوطن والمواطن..... ومن أشكال الفساد المحرّم
المحسوبية والواسطة السيئة التي تؤكل بها حقوق الآخرين، وتعتدي على مبدأ العدالة
والمساواة بين المواطنين، وهي فوق كونها فسادا تعدّ من الظلم الاجتماعي الذي حرّمه
الله عزّ وجلّ..... ومن وجد شيئا من الفساد فيجب عليه أن ينهى عنه بقدر طاقته، ومن
ذلك تبليغ الجهات المختصة بذلك كهيئة النزاهة ومكافحة الفساد ليقوموا بدورهم
الوطني وواجبهم الديني في هذا المجال..... وأما صاحب المسؤولية التي أُنيطت به هذه
المهمة، فيجب عليه أن يكافح الفساد، وأن يحرص على عدم وقوع هذه الممارسات مطلقا
بأن يسعى في تنفيذ القوانين المتعلقة بهذا الشأن....."
والتزاما منا بواجبنا الديني والوطني
والأخلاقي، وبما أمرت به دائرة الإفتاء، نعرض هذا النموذج العجيب من الفساد المالي
والإداري :
ــ قبل 7 سنوات اشترى أحدهم بسعر
متدنٍّ نصف دونم أرض على شكل مثلث، لا يصلح للبناء، ضمن حوض زراعيّ التنظيم، يقع
على شارع رئيسي عابر للمحافظات.
ــ وبسعر محروق مسحوق، وخلافا للمصلحة
العامة، تمّ تمليكه فضلة مخصصة لتوسعة الشارع الرئيسي، فأضافها إلى نصف الدونم،
وقضى على فرصة توسعة الشارع رغم الحاجة الماسة إلى ذلك أمس، وليس الآن أو غداً.
ــ حفر الأرض عميقا ليضمن التهوية
لتسوياته، فعلّق بذلك أراضي المجاورين بين القاع والفضاء، ووضعهم في أخطار داهمة
دائمة.
ــ اعتدى على شارع تنظيميّ، فقطعه،
وأغلقه، وضمّه إلى أرضه، وخصّصه للجلسات الخارجية، والكهوف التجميلية والنوافير
وأشجار الزينة لاستقبال الضيوف، وحرم المجاورين من الشارع الذي يخدم أرضهم.
ــ اعتدى على الشارع الرئيسي، فبنى
جزءا من سور منزله في حرم الشارع، وأضاف بوابات ضخمة، وأعمدة جرشية، ورصيفا،
وأشجارا، فتحوّل الشارع الرئيسي إلى مضيق خطير، ومأزق مروري كثير الحوادث لوجود
" يوتيرن " مزدوج أمام منزله مباشرة.
ــ تجاوز نسبة البناء المسموح بها
أضعافا، فبنى أكثر من 800م، بينما المسموح به حوالي 150م فقط.
ــ تجاوز عدد الطوابق المسموح بها، فبنى فوق الروف أبنية ترفية
ترفيهية مثل أبراج المطارات، لا يسمح بها النظام ولا يمكن ترخيصها.
ــ اعتدى على الارتدادات من جميع
الجهات : الشارع الرئيسي، والتنظيمي،
وأراضي المجاورين، بل بنى جزءا من المبنى على الحد مباشرة مع بعض المجاورين، وفتح
البرندات والنوافذ المخالفة على أرضهم ومنازلهم.
ــ رغم كل هذه المخالفات، وإخطارات
التنفيذ، والقضايا المنظورة في المحكمة، تمّ ترخيص أكثر من 500م من المبنى مبدئيا،
وتمّتْ محاسبته ماليا على تجاوزاته بشكل مخفّض جدا وفق نظام 2016 الملغي، علما بأن
البناء كله قام بعد 2017 على مدى عدة سنوات، وفي عهد نظام المخالفات المغلّظ
الجديد، فضاع بذلك أكثر من 100.000 دينار على خزينة الدولة وفق ما أفاد به أحد
موظفي ديوان المحاسبة، الذي رفض التوقيع على المعاملة، لكنها أُجيزت رغما عنه،
وخلافا لرأيه الصحيح الصريح.
ــ حصل على عداد كهرباء مؤقت، ولم يعد
بحاجة إلى إذن الإشغال، ونثر الأسلاك الخطيرة في الشارع وأرض المجاورين، وركّب
كاميرات المراقبة لإيذائهم، وانفتحت شهيته على المزيد، فأضاف بناء أكثر من 300م في
تعَدٍّ صارخ جديد، ومخالفات إضافية فاضحة واضحة جديدة.
ــ على مدى 7 سنوات منذ بدء التجريف،
بدأ المجاورون المتضررون بالشكوى لكل الجهات ذات العلاقة : ( البلدية، مديرية
الشؤون البلدية، مجلس التنظيم الأعلى، وزارة الإدارة المحلية، الأشغال، الكهرباء،
الحاكم الإداري، ديوان المحاسبة، هيئة النزاهة ومكافحة الفساد.....إلخ)، فتراكمت
المراسلات والمخاطبات والكتب الرسمية وأصبحت مجلدات، ورغم مئات المراجعات،
وإخطارات التنفيذ، وتقارير العديد من اللجان، وقرارَي حكم اكتسبا الدرجة القطعية
منذ 4 سنوات، يلزمان المعتدي بإزالة وتصويب كل المخالفات، وبناء جدار استنادي
للأراضي المعلقة، وإعادة الشارع المعتدى عليه كما كان، إلا أن الواقع ما زال على
حاله، وكلما حمي الوطيس، وظن المجاورون أن الحق حصحص والتنفيذ قادم، تمّ تشكيل
لجنة جديدة للمراوغة وإضاعة الوقت : هذه لجنة تقرر أن تنفيذ الشارع التنظيمي
المعتدى عليه صعب، وتتناسى أن المعتدي هو الذي جعله صعبا بالحفر عميقا وتعليق أرض
الجوار!!! وهذه لجنة تبحث في آلية التنفيذ الذي لن يحصل!!! وهذه لجنة تقرر أن
التنفيذ صعب لأن المعتدي لا يملك سوى 60سم من الأرض على زاوية منزله من
الخارج!!!!! وكأن المجاورين هم الذين سببوا المشكلة، وهم المعتدون!!!! وهذه .....
وهذه..... وهذه.......!!!!!!!!!!!!!
بل إن إحدى الجهات رفعت للمحكمة كتابا
باطلا بأن المعتدي صوّب مخالفاته بالكامل، فتمّ تجميد قرارَي الحكم، وبذل
المتضررون جهودا عظيمة استنزفت أوقاتهم وأعصابهم لإثبات بطلان الكتاب، فأعيد تفعيل
قرارَي الحكم من جديد بعد طول عذاب وجهد جهيد.
الخلاصة
هذا نموذج واضح الدلالة على الفجوة
الهائلة بين الدعوة إلى محاربة الفساد نظريا، وبين مكافحته والحدّ منه واستئصاله
عمليا.
كلنا نتمنى أن يأتي اليوم الذي لا
يخشى فيه أحد منا على حقه، لأنه مصون بالقانون، وألّا يعتدي أحد على حق الدولة أو
المواطنين لأنه حتما سيطارد ويعاقب وتطبق عليه القوانين، لعلنا جميعا نتفرغ بوقتنا
وإخلاصنا ووافر جهدنا وأعصابنا للقيام بواجباتنا، والنهوض بوطننا.
وبغير ذلك سنبقى صرعى الانفصام، نقول
ما لا نفعل، وسيبقى الميدان واسعا مفتوحا أمام المارقين المتحايلين، الذين لا يرون
الوطن إلا حمى مستباحا للنهب والسلب، والسطو على حقوق المواطنين الملتزمين.
ملاحظة : كل ما ورد في هذا المقال
معزز بالوثائق لمن يبحث عن الحقائق.