بقلم: د. هايل ودعان الدعجة
تقلبات وتغيرات نوعية وكبيرة طرأت على السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الاخيرة ، كان لها تأثيراتها وتداعياتها وانعكاساتها على المنظومة الدولية برمتها ، خاصة في عهد أخر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة . فمن الرئيس الأسبق بوش الابن الذي رفع شعار الحرب الوقائية او الاستباقية في محاربة الإرهاب على وقع مقولته الشهيرة من ليس معنا فهو ضدنا ، بطريقة قادته لغزو كل من العراق وأفغانستان وما رافق ذلك من فوضى واضطرابات وحروب وانتشار واسع للارهاب ، الى الرئيس السابق باراك أوباما الذي تبنى سياسة أخرى مغايرة لسياسة سلفه تقوم على أساس عدم الانخراط في مشاكل المنطقة ، واختياره التوجه نحو منطقة أسيا ـ المحيط الهادي لمواجهة العملاق الصيني هناك . وصولا الى الرئيس الجديد دونالد ترامب الذي طرح شعار ( أميركا أولا ) بالتزامن مع طرحه لشعار ( أميركا عظمى مرة أخرى ) . الامر الذي ينطوي على تناقض ، إذ كيف له ان يوفق بين تخليه عن الأحادية القطبية وتفرد بلاده بالنظام الدولي من خلال استدارته الى الداخل والانكفاء على الذات بإعطاء الأولوية الى المصالح الوطنية ترجمة لشعاره الأول ، وبين مسعاه لاستعادة نفوذ الولايات المتحدة وهيبتها وعظمتها في الساحة العالمية ترجمة لشعاره الثاني في ظل استعداده للتخلي عن محطات خارجية تمثل مراكز ثقل وقوة لبلاده ، كحلف الناتو واتفاقيات الشراكة عبر المحيط الهادي والتجارة والاستثمار عبر الأطلسي والتبادل الحر مع كندا والمكسيك واتفاقية باريس للمناخ وغيرها . وبنفس الوقت عدم ممانعته بان تصبح روسيا دولة عظمى ، مبديا استعداده لتعزيز العلاقات والتقارب معها ، وربما الدخول في مفاوضات حول تقاسم مناطق النفوذ معها ايضا ، ما يفتح المجال امامها لاستعادة مكانتها الدولية من خلال التفكير بالتوسع في المناطق والدول التي تقع في دائرة نفوذها ضمن الفضاء السوفياتي السابق ، ودول أوروبا الشرقية التي نالت عضوية الناتو ، والتي تعول كثيرا على المظلة الأمنية الاميركية في حمايتها والدفاع عنها من أخطار سياسة روسيا التوسعية التي تسعى الى تعزيز حضورها الإقليمي والدولي في ظل تنامي قدراتها العسكرية واستخدامها في ضم القرم وغزو جورجيا وشرق أوكرانيا وسوريا . عزز من هذه المخاوف الاوروبية تهديد ترامب بإعادة النظر بالالتزامات الأميركية حيال الامن في أوروبا والعالم ، والتفكير بسحب بلاده من حلف الناتو الذي يرى بانه قد عفا عليه الزمن . الامر الذي بات يقلق دول أوروبا التي قد تلجأ الى اتخاذ تدابير أمنية من خلال رفع قدراتها العسكرية وانشاء جيش موحد ، لتعزز من اعتمادها على نفسها أمنيا ودفاعيا .
كذلك فان الرئيس ترامب قد وعد باتخاذ إجراءات اقتصادية يرى انها تصب في خدمة المصالح الوطنية ، كأتخاذ تدابير حماية تجارية وفرض رسوم جمركية على الواردات من الصين واليابان والمكسيك وغيرها لتشجيع المنتجات المحلية ، وإلغاء بناء المصانع الأميركية في الخارج لتوظيف الاميركيين وحماية مصالحهم ، وهي الإجراءات التي اعتبرت معادية للعولمة ومعرقلة للتجارة وحركة العمل ورأس المال . إضافة الى عزمه القيام بإعادة النظر بالاتفاقيات الاقتصادية ، وهو ما تجلى بتوقيعه امرا تنفيذيا يقضي بإلغاء اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي التي تضم 12 دولة ، رغم ما تمثله هذه المنطقة من بيئة اقتصادية غنية وضخمة للولايات المتحدة ، التي هدفت من وراء توقيعها توسيع نفوذها في أسيا لمواجهة العملاق الصيني وكبح تطلعاته التنافسية الاقتصادية ، واقامة علاقات نوعية مع أكبر اقتصادات العالم في هذه المنطقة الحيوية ، كالصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها . في حين تسعى الصين الى تعزيز روابطها الاقتصادية في أسيا والمحيط الهادي ، حيث قامت بابرام اتفاقية موازية للتجارة الإقليمية مع 15 دولة أخرى بما فيها اليابان . ما يعطيها نفوذا كبيرا لفرض حضورها في هذه المنطقة وفي الأسواق العالمية .
ان هذه السياسات والتوجهات الجديدة قد تدفع بالولايات المتحدة نحو الانعزالية والتنازل عن الأحادية القطبية من خلال اتاحة المجال امام قوى عالمية منافسة كروسيا والصين واليابان وربما دول أوروبا لملء هذا الفراغ في ظل ما تمتلكه من مقومات مالية واقتصادية وتقنية وعسكرية وبشرية هائلة تجعلها قادرة على التحكم بالمنظومة الدولية وإعادة تشكيل النظام الدولي من الأحادية القطبية الى الثنائية او المتعدد الأقطاب ، حيث أبدت الصين استعدادها لزعامة العالم وقيادته إن أجبرت على ذلك إذا تراجع الاخرون . دون ان نغفل ان اميركا بتخليها عن حلفائها في أوروبا واسيا والشرق الأوسط على أساس الدفع مقابل الحماية ، قد تدفع بهؤلاء الحلفاء للدخول في تحالفات واحلاف واتفاقيات أقليمية ودولية جديدة ، وربما التفكير بامتلاك أسلحة الدمار الشامل للدفاع عن أمنها وحدودها من أعداء الامس وربما المستقبل . بصورة قد تفتح المجال امام سباق التسلح ، وبما يهدد الامن والاستقرار في مختلف انحاء العالم .