بقلم: د. حفظي اشتية
غضبت الطبيعة، ومادت الأرض وزلزلت
زلزالها، بينما آلاف النيام غارقون في الدفء والأحلام. وفي ثوانٍ معدودات تبدلت
الحال، تهاوت البنايات، وغرقوا في الظلام تحت الركام، وانخنقت صرخات الأطفال،
وأنّات الجرحى، حُجبت العيون عن النظر، صُكّت المسامع، وجمّد الغبار المدامع، وطاف
سريعاً شريط ذكريات الحياة: حلوها ومرها، عِذاب آمالها وعَذاب آلامها.
أمٌّ جريحة تبحث عن طفلها الرضيع
فتصطدم يدها بصُمّ الصخور، أبٌ يئن صدره من ثقل ما يربض عليه وينوء بكلكله، ينادي
على أبنائه ولا مجيب لندائه، أخٌ يصيح على إخوته ولا صدى لصوته، عجوز تطلب العون
ولا مغيث.....
إنه مشهد واقعيّ مؤلم مصغّر للقيامة.
"وعنت الوجوه للحيّ القيوم" . فتوحّد النداء: يا ألله.
أفاق الخلق من لذيذ المنام، وهبّوا
للنجدة، لم يُثنهم جمود البرد، أو حلكة الليل، أوخطورة الأمر، أو الاهتزازات
المتتالية المتوعدة، تقدّموا دون أنْ يعرف بعضهم بعضا، لكنهم توحّدوا نحو هدف
إنسانيّ سامٍ جمعهم، ودفعهم فتآلفوا وتآزروا متطوعين مع كوادر الدولة من منقذين
ومسعفين، تآخت الأيادي العزلاء مع الآلات الجبارة العملاقة، انهمرت الدموع مع طلوع
كلّ ضحية، وتعالت صرخات الفرح مع ظهور كلّ ناجٍ، وبدا أنّ أشتات البشر المتباينين
قد تدانوا وتقاربوا حتى غدوا أسرة إنسانية واحدة حديثة النشأة، طيبة القلوب، نقية
السرائر، صافية النية، سليمة من التباغض والتحاسد والتناقض، رقيقة الدمعة، طفولية
الفرح، فطرية المشاعر، لا تعرف الأثرة والأنانية، يجمعها الإيثار والفداء
والتضحية....... لقد عاد كلّ واحد منهم إنساناً كما خلقه الله أول أمره.
ثمّ هبّت دول الدنيا في القارات الست،
وضجّت مطاراتها بفِرق الإنقاذ والإسعاف من كلّ لون وجنس، وتراسلت طائراتها من كلّ
حدب وصوب، تملأ رحب الفضاء، تقدُم بعزيمة صادقة، وزنود قوية، وهمة عالية، تستعجل
الوصول لتحقيق الهدف النبيل: نصرة الإنسان لأخيه الإنسان في كلّ زمان وفي كلّ
مكان.
مَن يرقب هذا المشهد يرقّ قلبه،
وتنحدر دموعه، فيصدع رأسه بألف سؤال وسؤال:
ماذا لو تحلّى بنو البشر جميعاً
دائماً بالرحمة والحكمة والتعقّل، ونبذ الصراعات والنزاعات، والنأي عن الحروب،
فبادروا إلى إغلاق آبار الأحزان إلى الابد؟؟!!
ماذا لو تخلّوا عن الأطماع فيما
بينهم، واستقواء قويهم على ضعيفهم، واستلاب خيرات الأرض لتكون حكراً على صفوة
شرارهم، بينما إخوتهم من عامة الخلق يتضورون جوعاً، ويتهالكون مرضاً وجهلاً وعوزاً
وفقراً؟؟!!
ماذا لو وُجّهت الآلاف المؤلفة من
المليارات النازفة في الحروب نحو تعليم الإنسان، وصحة الإنسان، وسعادة الإنسان،
وتآلف الإنسان مع أخيه الإنسان؟؟!! ماذا لو وألف ماذا وماذا؟!
إنها أسئلة عاصفة ستظلّ عالقة في عالم
الأحلام، فمنذ الحكاية الدامية الأولى بين قابيل وأخيه هابيل في فجر الخليقة
الأول، كُتب على البشرية الكدح والشقاء من الميلاد إلى لحظة لقاء الخالق:
"ياأيها الإنسان إنك كادح إلى
ربّك كدحاً فملاقيه"، وطغت السنّة الأليمة بأنّ يقتل الإنسان أخاه الإنسان في
حروب لا تنتهي حتى يوم الحساب:
كلما أنبتَ الزمانُ قناةً ركّب المرءُ للقناة سِنانا!!!!!!!