الزمان : 7/6/1967.. المكان : وادي
التفاح/غرب نابلس.
انجرّ العرب إلى حرب 1967 في توقيت
غير مناسب، واستعداد غير كافٍ. وفي اليومين الأولين 5/6+6/6 كانت نتائج المعركة
الكارثية قد ظهرت وانفجرت : دُمرت الطائرات العربية، واضطربت القيادات والأوامر
العسكرية، وتاه الجنود وتقطعت بهم السبل، وشاهت الدنيا، وتهاوت المعنوية.
وفي فلسطين قاتل أبطال الجيش العربي
في بعض المواضع ببسالة منقطعة النظير، رغم غياب الغطاء الجوي الموعود، لكنْ هوت
درّة المدائن، ودُمرت يالو وعمواس وبيت نوبا في محيط القدس، وبكت القلوب دما
ذكريات عبدالقادر الحسيني وحابس المجالي على المداخل، وتم اجتياح جنين وطوباس
ليعبر العدو طريق الباذان من الشرق، وطريق الخضيرة من الغرب، ليكون اللقاء عند
دوّار نابلس " جبل النار ".
كان المقدم صالح عبدالله الشويعر
الشمّريّ، والملازم أول سليمان عطية الشخانبة، والرقيب أول صيّاح فياض عواد
الفقراء، والجندي أول راشد موسى نمر العظامات في مدرعتهم، أسودا يربضون في وادي
التفاح، قد تقاسموا على الدفاع عن المدينة حتى الشهادة، يُشهدون الله على ذلك،
وجبلي جرزيم وعيبال الشاهقين بين الأرض والسماء.
أطلّت طلائع أرتال العدو، فانفتحت
عليهم أبواب الجحيم، ودارت رحى معركة بطولية خالدة : أربعة صناديد في مدرعة واحدة
يواجهون لواء مؤلّلا كاملا، يعطبون العديد من مدرعاته، ويقتلون الكثير من جنوده في
مواجهة ضارية استمرت من الساعة الثانية من بعد ظهر الأربعاء 7/6 حتى السابعة مساء
ذلك اليوم.
نفدت الذخيرة، فاقحتمت المدرعة
الأردنية الموت نحو مدرعات العدو، بحركة صادمة صاعقة مفاجئة لا تخطر على بال،
تصدمها وجها بوجه، حديدا بحديد : أسود يزأرون، وجبناء مذهولون يفرّون من المدرعات
المعطوبة، وبدا كأن المدرعة فيلق من السماء لا يخضع لقوانين القتال على الأرض.
استعان العدو بطائرات الميراج، تقذف
قنابل النابالم، تحرق البشر والشجر والحجر والحديد. قفز الشويعر من المدرعة
المحترقة، وربض بين الصخور في صمود أسطوري يقاتل بسلاحه الفردي حتى استشهاده.
سكن المكان المرعب، وسكت عن العدو
الخوف، فاقترب الضابط وجنوده المصدومون ليجدوا مدرعة واحدة فقط بثلاثة شهداء
داخلها، وشهيد وحيد خارجها، فلعقوا ذلّ الهزيمة العاتية، وخلعوا عنهم رداء الهيبة
العارضة، وخجلوا من حال لواء جحفل توقفه وتعصف به مدرعة واحدة باسلة. أدّوا التحية
للبطل الصنديد الشهيد، ودخلوا المدينة بعد خمس ساعات فاجأتهم وصعقتهم وبدّدت نشوتهم
وقلّلت هيبتهم.
هُرع أهالي المدينة نحو الموقع،
يدفنون الشهداء، ويسمون القائد ب "أبو هاشم" نسبة إلى الجيش العربي
الأردني، ويعلّمون المكان، ويحوّطونه بالحجارة، إلى أن أقيم ضريح إسمنتي للشهيد
ورفاقه سنة 1987، تم تجديده بحجارة قباطية سنة 1988، ورفض المتعهد أن يأخذ أجرا،
وشعر صاحب الأرض "نادر العفوري" ثم ابنه نضال من بعده، بوافر الفخر
والشرف لأن الضريح أقيم في أرضه، وضمّ ترابها رفات الشهداء الشرفاء.
وفي مكان غير بعيد عن الضريح، في مخيم
عين بيت الماء، كانت الحاجة"آمنة الواكد :أم جمال"، قد عاينت بقلب مفجوع
استشهاد البطلين : عبدالكريم جدعان العزام، وشاكر عبدالجليل علوان العبادي مع
ابنها، فأشرفت على دفنهما وتكريمهما بالعناية والرعاية والمواظبة على ذلك خمسة
وخمسين عاما، وقد زار "فواز" ابن الشهيد عبدالكريم العزام قبر والده،
فوجد في انتظاره الحاجة آمنة، أُمّا فلسطينية ترجوه ألّا ينقل رفات الشهيد، وأن
يبقيه في أرض الأنبياء التي دافع عنها واستشهد على ثراها.
كما زار أخ الشهيد شاكر العلوان
العبادي قبر أخيه، فوجد مدير المخيم "الحاج المرحوم محمد بركات" في
استقباله، يسلّمه أمانة قديمة غالية هي مقتنيات أخيه، ويحتضنه عند القبر، يبكيان
لتجبل الأرض الطاهرة دموعهما معا، كما جبلت من قبل دماء الأهالي والمدافعين
النبلاء.
فإلى أبطال الملاعب الهتّافين!!! نقول
:
هذه حكاية من آلاف الحكايات التي تثبت
وحدة الشعبين : تاريخا وجغرافيا وألما وأملا وجهادا واستشهادا وتضحيات. لم تكونوا
قد وُلدتم بعد، ولا آباؤكم عندما رسمت معالمَها الدموعُ والدماء والوفاء، وشهدت
على وحدة المصير جنبات الأرض وأعالي السماء.
ها هم أعداؤكم قد توحّدوا في أقصى
اليمين على الحقد والكره لكم مجتمعين لاقتلاع مَن هم غرب النهر، تمهيدا للوثبة
الآثمة شرقه، فهل تعجزون أنتم عن عدم التفرق بسبب كرة، مجرد كرة؟؟؟!!!!!
هذه تذكرة، لعلها تجد آذانا سامعة
وقلوبا واعية.
ملاحظة : المقالة مدينة لجهود
وتحقيقات سابقة لكل من : د. محمد عبدالكريم الزيود، و د. عصام الغزاوي، و محمود
كريشان، وغيرهم من رواة الحادثة.