سَرَتْ في الآونة الأخيرة نغمة حزن دفين في مقالات بعض الكتاب الساخرين، وغابت أو كادت أن تغيب قهقهات كلماتهم التي كانت تصف أوجاعنا بسخرية باكية مريرة، تكشف الخلل، وتشير إلى مواطن التقصير بأسلوب انصهر فيه الجدّ بالهزل، يفجّر من أعماقنا ضحكا باكيا أو بكاء ضاحكا، فما الحياة الدنيا إلا شيء من هذا وذاك.
وإن بقي لدى العرب بقايا من فِراسة شُهروا بها بين الأمم، فلعلها توصلنا إلى قناعة بأن هذه الفئة من الكتاب المرموقين لا تنطوي نفوسهم على مآرب شخصية، فبيئاتهم الاجتماعية غارقة في الفاقة الشريفة والتعفف الوارف وعزة النفس الطاغية على كل هوى.
ولا يُظن أن لهم مطامع في مناصب أو مكاسب، فلو كانوا كذلك لسلكوا الطرق التي توصلهم إلى مبتغاهم، وهي كثيرة يسيرة.
ولعل الدوافع الحقيقية لكتاباتهم تكمن في حبهم العميق لوطنهم، ورغبتهم العارمة أن يكون درّة الأوطان، خاليا من كل خلل، وافر الخير، موفور الكرامة، عظيم الشأن، مهيب الجانب.
وليس ذلك ببعيد، فهذا الوطن مثل قبضة القلب، كان دوما واسطة العقد، وبؤرة الحدث، ومحط الأنظار، ومعبر الحضارات، وباكورة الشمس، ومعقل العزّ.
وكلامنا هذا ليس دفقة حماسية أو خطبة شاعرية، إنما هو توصيف دقيق للواقع، حقيق بأن يُنظر فيه ويُلتفت إليه.
وعندما نقول الوطن، فنحن نعني أبناءه من رئتي النهر المقدس، الذين وحّدهم الدم والألم والهمّ، كما وحّدهم التاريخ والجغرافيا ورغيف الخبز ومساقط الغيث ومواقع الكلأ، قبائل وعشائر تقطع النهر غربا أو شرقا، وتُبقي الشرايين دافقة تنقل نسغ الحياة، ونبض الفرح والألم والحنين.
حضارات تلو حضارات مرّت على هذه الأرض، شواهدها في كل شبر، وطيّ كل ذرة تراب: تلقاها في ربة عمون، وفي جبل مكاور وأذرح والحميمة والبتراء وبصيرا وذيبان وحسبان وطبقة فحل وجرش وأم الجمال وأم قيس.....إلخ والقائمة تطول ولا تكاد تنتهي، لكنها وإن تباعدت مصادرها، تتوارد على منبع واحد هو أن هذه الأرض عربية كانت وما زالت وستبقى بإذن الله. والعابرون سادوا قليلا أو كثيرا، لكنهم نكصوا وبادوا، وما زال رجع صدى هزائمهم المدوّية يتردد في اليرموك وحطين وعين جالوت.....إلخ.
وأما الطلع السرطاني الحالي الذي جرّ علينا الويلات، وهو سبب كل العلات، فلن يكون مصيره بأحسن حالا من سابقيه، ولقد كان استئصاله إبان النكبة الأولى قريب المأخذ، وفي متناول أيدي أسود الشرى من أبطال الجيش العربي الأردني لولا وألف لولا..... .
وتشهد على ذلك أسوار القدس وجنبات باب الواد واللطرون...... وقد قِيد كبار قادتهم أسارى صاغرين لتمرّغ أنوفهم في رمال أم الجمال. وتأكدَ ذلك مجددا في تلال الكرامة التي أثبتت أن الهزيمة عابرة، وأن النصر لا محالة آت.
لكن النصر الموعود لا يتحقق إلا بتطهير الذات أولا، وتقوية أساسات البيت، ورصد مواقع التصدعات في كل مناحي الحياة.
وكثير من الكتاب النابغين يضطلعون بهذا، وفي طليعتهم الكتاب الساخرون الذين ينتزعون البسمة من بين ركام آهات الآلام.
ولا نملك إلا التمني بأن يُتركوا وشأنهم، ولا يُضيّق عليهم، ولا تُخمد أصواتهم، ولا تتحول ضحكاتهم الصاخبة بالحياة إلى أنين مجروح يندّ عن نفس مهمومة مأزومة.
اتركوا لنا بسماتهم مشاعل تبدّد بعض ظلمتنا، ومنائر نهتدي بها وتؤنس وحشتنا.
الوطن قوي بمحبيه، ولن تهزمه نكتة سالت على لسان محبّ متألم.
لقد اخترعوا جهازا لكشف الكذب، وليتهم يسارعون في اختراع جهاز يكشف عن مستوى حب الوطن في القلب، ليميز بين من يصدعون رؤوسنا صباح مساء بصراخ حناجرهم المزيف المدعي لحب الوطن، وبين المخلصين الصامتين إذا اشتكى الوطن تدمى قلوبهم وتدمع عيونهم، فليست المستأجرة كالثكلى!!!
وفي الأحباب مختصٌّ بوجدٍ وآخر يدّعي معه اشتراكا
إذا اشتبهتْ دموعٌ في خدودٍ تبيّن مَن بكى ممّن تباكى