لطالما نوّه كثيرون وأنا منهم،
ونبّهوا على أن النوع الأكثر خطراً وفتكاً وانتشاراً من بين أنواع الفساد هو
الفساد الإداري، لأنه هو المدخل لكل أنواع الفساد الأخرى، وهو السند لها تتكىء
عليه وتنفذ من خلاله.
الخلل في إدارات التعليم والصحة
والاقتصاد، والهدر المالي، وحلول الإحباط، وتغلغل اليأس إلى النفوس، وتراجع الثقة
بين المواطن والمسؤول، وشيوع الشجارات الدامية، وتدنّي الانتماء، والرغبة العارمة
في مغادرة الوطن .... إلخ، كل ذلك مردّه الأساسي في الغالب إلى فساد إداري.
إلى عدّة عقود خلت، كان الموظف
الحكومي أحد أهم رموز هيبة الدولة، وأداة فاعلة لإنفاذ القانون، وإظهار الحق، وردع
الظلم، وكان الناس يلوذون به، ويرضون حكمه حتى لو كان لغير صالحهم، ويرددون : (
إللي بتغلبه الدولة مش مغلوب ) .
لكن التراخي الإداري، والترهل، وضعف
بعض المسؤولين وتقلدهم مناصبهم دون كفاءتهم، وتراجع الوازع الديني والأخلاقي،
وتواضع المحاسبة والمعاقبة .... إلخ، أدت إلى تسلل الفساد الإداري، ثم تعاظمه حتى
غدا داء وعزّ الدواء.
وتعظم كبائر الفساد وصغائره إذا أدى
ذلك إلى نزاعات بين المتجاورين تقلقل السلم المجتمعي، أو إذا طال ذلك أرواحاً
بريئة مسالمة كما حصل مؤخراً في عمارة اللويبدة، وكما تكرر حصوله في انهيار مبانٍ
أو أسوار سابقاً. وليس تجنيّاً أو تسرعاً أن نستنتج أنّ أسباب ذلك تعود إلى
مخالفات تنظيمية غُضّ النظر عنها، وتمّت الموافقة عليها، أو إجراءات لم تتم
لمتابعتها وتصويبها بعد رصدها.
ولكيلا نترك حجّةً لمن يتعقب كلامنا،
ويتهمنا بإطلاق الكلام جُزافاً، نورد هذه الحكاية الواقعية التي حدثت مؤخراً في
إحدى البلديات، معززة بكل دليل لمن يسن أسنانه لمحاربة الفساد، ويتعذر بأنه لم
يجده :
ــ اشترى أحدهم نصف دونم ضمن تنظيم
زراعي يقع على شارع رئيسي عابر للمحافظات عرضه 40مترا، ثم تمكن من شراء فضلة أمام
أرضه مخصصة هي ومئات القطع المماثلة الأخرى لتوسعة الشارع مستقبلا، فقضى بذلك على
فرصة التوسعة رغم الحاجة الماسة إليها الآن وليس غدا.
ــ حفر عميقا في أرضه ليكسب التسويات
تحت الأرضية، ويزودها بالإضاءة والتهوية، فعلق الشارع التنظيمي المجاور لقطعته،
وأراضي المجاورين بين الأرض والسماء.
ــ اعتدى على الشارع التنظيمي الذي
يخدم المجاورين فضمّه مع فضلة محاذية له إلى أرضه، واستغله فحوّله إلى جلسات
خارجية لضيوف المصلحة، وكهوف تجميلية، ونوافير ترفيهية، وجنائن معلقة، وأشجار زينة
وثمار....إلخ.
ــ رغم أن مساحة أرضه الأصلية وفضلة
الشارع الرئيسي التي اشتراها تبلغ حوالي دونم، تنظيمها زراعي، نسبة البناء فيها
15%، يعني حوالي 150متر بناء فقط، وارتداداتها 8متر أمامي+5متر جانبي وخلفي، رغم
كل ذلك فقد حصل على ترخيص بناء أوليّ مساحته 540مترا خلافا صارخا لنسبة ال 15%،
وتجاهلا فجّا للاعتداءات ومخالفات الارتدادات. وقد تم احتساب غرامات تجاوزاته وفق
نظام سنة 2016 المخفف، بمبلغ إجمالي حوالي 2000دينار فقط، رغم أن البناء كله تم
على عدة سنوات بعد سنة 2017 التي ضوعفت فيها الغرامات عشرات المرات.
ــ انفتحت بذلك شهيته على المزيد من
الاعتداءات والتجاوزات، فاعتدى على ارتدادت الشارع الرئيسي، بل بنى سور منزله في
الشارع نفسه، وأضاف رصيفا خارج السور دون موافقة الأشغال العامة، بعرض أكثر من
متر، وزرع وسطه الأشجار، فتحوّل الشارع الأربعيني إلى شارع ضيق من بضعة أمتار،
فكثرت الحوادث والأخطار، وبخاصة أن أمام المنزل مباشرة " يوتيرن " مزدوج
لليمين واليسار.
ــ اعتدى على ارتدادات وتهويات
المجاورين، فبنى على حدّ أرضه تماما، وبالغ كثيرا في فتح النوافذ والبرندات المخالفة
التي تكشف محارم جيرانه وتحدّ من حريتهم في بيوتهم وأرضهم.
ــ بعد أن ضمن الترخيص المبدئي
الأولي، بدأ يتجاوز مجددا في نسبة البناء وعدد الطوابق، واستكثر من القرميد
الاستعراضي، وبنى برجا فوق كل فوق، يستحيل ترخيصه، بمساحة 11مترا، خارج كل ما يخطر
على البال من أحكام التنظيم، يشبه أبراج المطارات، خصصه للأسمار الرومانسية،
منتهكا بذلك كل حرمة لجيرانه أو خصوصية، وزادت بكل ذلك غرامات مخالفاته عن مائة
ألف دينار وفق تقديرات ديوان المحاسبة، لم يدفع منها دينارا لخزينة الدولة.
ــ ركّب الكاميرات على محيط منزله من
جميع الجهات، وكأننا أمام دائرة أمنية أو منشأة نووية، وأصبح المجاورون تحت رحمة
مزاجه ومراقباته لهم وتجسساته عليهم.
ــ حصل على عداد كهرباء مؤقت عند بدء
البناء، وألقى أسلاكه المهترئة على أرض الشارع وأراضي المجاورين، وانتهى البناء
منذ سنين، وسكن واستقر هازئا بكل أحكام التنظيم، ولم يحصل على إذن إشغال لكثرة
مخالفاته وعدم حاجته إليه، فأفلت من العقاب، وانحلت بذلك مشكلة الكهرباء لديه، بل
تمتع بفواتير تشجيعية مخفضة وفق تعليمات شركة الكهرباء الجديدة الحكيمة التي تحسب
الكيلوواط للعداد المؤقت بعشرين قرشا، فإن زادت الكمية المستهلكة عن1000 احتسبته ب
13قرشا !!!!! فشجعته بهذا القرار العجيب المقلوب الغريب المخالف لكل منطق، على
المزيد من الاستهلاك والصرف، فركّب المكيفات، ونثر مئات اللمبات الداخلية
والخارجية والكشافات التي تحول الليل إلى نهار، لتكون دليلا على أن من تحت هذه
القبة عظيم عتيد، ورجل رشيد، ووحيد عصره، وشيخ فريد، لذلك كثرت ولائمه وعزائمه
وحفلاته وأفراحه وعرطه واستعراضه، وكأننا في دولة لا أثر فيها لأي قانون.
هذا الحال مضى عليه 6 سنوات دون أي
حل، أو أمل بالحل، رغم صدور قرارات حكم قضائية قطعية بالإدانة وإزالة المخالفات
وبناء جدار استنادي ضروري للسلامة العامة، ورغم إخطارات التنفيذ، ورغم عشرات
اللجان التي تغدو وتروح وتكتب التقارير التي لا تُنفذ، وتبقى رهينة المزاج حبيسة
الأدراج، أو يتظاهر المعتدي تحت الضغط بتنفيذ القليل منها خداعا وتزييفاً، ليبحثوا
له وسط الركام عن عذر واهٍ أقبح من ذنبه، فقد اكتفوا بعدم إعطائه إذن إشغال هو ليس
أصلاً بحاجة إليه لوجود التيار الكهربائي مسبقاً لديه.
أما الشارع التنظيمي الذي اعتدى عليه،
وضمّه إلى أرضه، فقد تذرّعوا بأنه صعب التنفيذ، وتناسوا أن المعتدي هو نفسه الذي
جعل السهل صعباً بالحفر العميق، وتعليق الشارع وأراضي المجاورين، ونقترح هنا إضافة
بند على قوانين التنظيم يسمح لكل مالك أن يضم الشوارع صعبة التنفيذ التي تحيط
بأرضه، ليوفر على الخزينة تكاليف فتحها، وليذهب المجاورون المتضررون إلى الجحيم .
ثم يأتيك من يقول : أعطني دليلاً
فعلياً على وجود فساد، وسترى فِعلي ! فهاهو الدليل، والمديريات المعنية والبلدية
وشركة الكهرباء والحاكم الإداري والوزارة وديوان المحاسبة وهيئة مكافحة الفساد
.... كلهم يعلمون، لكنّ الوقت يضيع في قصّ أثر الذئب المعتدي المحتال الذي يختال
أمامنا عياناً، وننتظر أن تحصل الوفيات بسبب أسلاك الكهرباء، أو انهيار الأبنية
المخالفة غير المرخصة، أو الأراضي المعلّقة، أو نشوب شجار دموي يائس بين الجوار،
لنستفزع بأبنائنا في الدفاع المدني أو المراكز الأمنية، ونزيدهم رهقاً، ونحمّلهم
تبعة أخطاء غيرهم من بعض الموظفين الذين لا يلتزمون بتطبيق القوانين، ويزرعون
بيئتنا الاجتماعية مخالفات وخلافات .
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا