يمثّل الحاكم الإداري الدولة في تنفيذ
القوانين، ومراقبة أداء المديريات والمؤسسات، ومحاسبة الفاسدين أو المخطئين أو
المقصرين، وتحقيق العدالة بين المواطنين، والتصدي للمارقين، ونزع فتائل الأزمات،
وإخماد الفتن، وحل النزاعات، والعصف بالظالمين، والعطف على المظلومين....إلخ
باختصار، إنه وجه الدولة العصرية
المدنية المأمولة.
وقد لمسنا من تجارب حقيقية واقعية أن
كثيرا من الحكام الإداريين يتحلّون بقدر وافر من الاستقامة وحميد الأخلاق،
والدراية والحكمة والحصافة والفراسة، ونظافة اليد وحسن السمعة، والنأي بالنفس عن
كل مواطن الشبهة، والتمتع بقوة الشخصية والهيبة مع لين الجانب وأدب التواضع،
والعدل الوارف الذي يظلل الجميع، والقدرة الظاهرة على وزع كل معتدٍ أثيم، وزرع
الأمان في قلب كل صاحب حق بأنه سيصل إليه وسيناله بقوة الدولة والقانون.
لكننا علمنا علم اليقين أن أكبر عائق
يحول أحيانا بين هذا الحاكم وبين تنفيذ القانون يتمثل في الضغوط الاجتماعية التي
تنصبّ على رأسه، فيقع حائرا بين نارين :
هل يرفض هذه الوساطات ويصر على إنفاذ
الحق، فيخسر بذلك شعبيته، ويتكاثر المناهضون له المتذمرون منه، بل الشاكون
والمفترون عليه؟؟!
أو يخضع لتلك الضغوط فيكسب وقتيا رضا
المتدخلين المتملقين الذين سيكيلون له مدحا رخيصا وتزلفا مقيتا، وقد ينتهي الأمر
بوليمة تكون مهرا للقرار الظالم، وسفحا للحق الضائع، وطمعا وتوطئة لقرار ظالم جديد
قادم؟؟!
ولا ننسى أن الحاكم قد لا يكون لديه
الأوقات الكافية، والمعلومات الدقيقة الوافية، للتفريق بين الساعين بحق وصدق نحو
حلّ الإشكالات، وتخفيف الضغط على المؤسسات، أصحاب الخلق الرفيع، والنوايا الحسنة،
الصادقين بقولهم، الأنقياء بعملهم، الأوفياء بوعودهم وعهودهم، وبين تلك الفئة
المستشيخة التي تفعل خلاف ما تقول، لا تصدق بحديث، ولا تفي بوعد، قد ساءت نيتها،
وغلبتها أنانيتها، وطغى عليها حب الظهور، أو قنص المكاسب، أو تصيّد الأصوات
الانتخابية، فلبست لبوسا ليس لها، وتظاهرت بما ليس فيها، واختبأت تحت عباءة ثعلبية
تكشف زيفَها الصناعةُ الصينية.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، وتكون
الخطيئة الوظيفية حين يظهر العجز عن الصمود في مواجهة الباطل، وتتراخى قبضة الدولة
وهيبتها وسطوتها، فنتحاشى تنفيذ القوانين على الأقوياء المعتدين، ونجعلها سيوفا
مسلطة في وجوه الضعفاء قليلي الحيلة، أو الحكماء اللائذين بتلك القوانين.
ونعلم أن المعتدين المتنافخين أصحاب
الفهلوة والألاعيب البهلوانية هم الذين خبروا كيف يراوغون فيَسلمون، ومهروا في
العلاقات والوساطات والولائم والحفلات والعزائم والأكاذيب والنفاق والمجاملات،
ليخترقوا بذلك كل قانون ويَسلموا ويأمنوا ويحصلوا على كل ما ليس من حقهم، ويأكلوا
أموال الدولة وحقوق الناس بالباطل، ويعتدوا على المقدرات، وينعموا بالأمن بعيدا عن
أعين العدل والمساواة.
وحتى لا يبقى الكلام تهويما نظريا
بعيدا عن الواقع، نكتفي بإيراد مثال حقيقي معزز بكل دليل للاقتناع بفداحة ما حصل،
واتخاذ كل سبيل لتصويب هذا الخلل.
ــ اشترى أحدهم نصف دونم ضمن تنظيم
زراعي يقع على شارع رئيسي عابر للمحافظات عرضه 40مترا، ثم تمكن من شراء فضلة أمام
أرضه مخصصة هي ومئات القطع المماثلة الأخرى لتوسعة الشارع مستقبلا، فقضى بذلك على
فرصة التوسعة رغم الحاجة الماسة إليها الآن وليس غدا.
ــ حفر عميقا في أرضه ليكسب التسويات
تحت الأرضية، ويزودها بالإضاءة والتهوية، فعلق الشارع التنظيمي المجاور لقطعته،
وأراضي المجاورين بين الأرض والسماء.
ــ اعتدى على الشارع التنظيمي الذي
يخدم المجاورين فضمّه مع فضلة محاذية له إلى أرضه، واستغله فحوّله إلى جلسات
خارجية لضيوف المصلحة، وكهوف تجميلية، ونوافير ترفيهية، وجنائن معلقة، وأشجار زينة
وثمار....إلخ.
ــ رغم أن مساحة أرضه الأصلية وفضلة
الشارع الرئيسي التي اشتراها تبلغ حوالي دونم، تنظيمها زراعي، نسبة البناء فيها
15%، يعني حوالي 150متر بناء فقط، وارتداداتها 8متر أمامي+5متر جانبي وخلفي، رغم
كل ذلك فقد حصل على ترخيص بناء أوليّ مساحته 540مترا خلافا صارخا لنسبة ال 15%،
وتجاهلا فجّا للاعتداءات ومخالفات الارتدادات. وقد تم احتساب غرامات تجاوزاته وفق
نظام سنة 2016 المخفف، بمبلغ إجمالي حوالي 2000دينار فقط، رغم أن البناء كله تم
على عدة سنوات بعد سنة 2017 التي ضوعفت فيها الغرامات عشرات المرات.
ــ انفتحت بذلك شهيته على المزيد من
الاعتداءات والتجاوزات، فاعتدى على ارتدادت الشارع الرئيسي، بل بنى سور منزله في
الشارع نفسه، وأضاف رصيفا خارج السور دون موافقة الأشغال العامة، بعرض أكثر من
متر، وزرع وسطه الأشجار، فتحوّل الشارع الأربعيني إلى شارع ضيق من بضعة أمتار،
فكثرت الحوادث والأخطار، وبخاصة أن أمام المنزل مباشرة " يوتيرن " مزدوج
لليمين واليسار.
ــ اعتدى على ارتدادات وتهويات
المجاورين، فبنى على حدّ أرضه تماما، وبالغ كثيرا في فتح النوافذ والبرندات
المخالفة التي تكشف محارم جيرانه وتحدّ من حريتهم في بيوتهم وأرضهم.
ــ بعد أن ضمن الترخيص المبدئي
الأولي، بدأ يتجاوز مجددا في نسبة البناء وعدد الطوابق، واستكثر من القرميد
الاستعراضي، وبنى برجا فوق كل فوق، يستحيل ترخيصه، بمساحة 11متر، خارج كل ما يخطر
على البال من أحكام التنظيم، يشبه أبراج المطارات، خصصه للأسمار الرومانسية،
منتهكا بذلك كل حرمة لجيرانه أو خصوصية، وزادت بكل ذلك غرامات مخالفاته عن مائة
ألف دينار وفق تقديرات ديوان المحاسبة، لم يدفع منها دينارا لخزينة الدولة.
ــ ركّب الكاميرات على محيط منزله من
جميع الجهات، وكأننا أمام دائرة أمنية أو منشأة نووية، وأصبح المجاورون تحت رحمة
مزاجه ومراقباته لهم وتجسساته عليهم.
ــ حصل على عداد كهرباء مؤقت عند بدء
البناء، وألقى أسلاكه المهترئة على أرض الشارع وأراضي المجاورين، وانتهى البناء
منذ سنين، وسكن واستقر هازئا بكل أحكام التنظيم، ولم يحصل على إذن إشغال لكثرة
مخالفاته وعدم حاجته إليه، فأفلت من العقاب، وانحلت بذلك مشكلة الكهرباء لديه، بل
تمتع بفواتير تشجيعية مخفضة وفق تعليمات شركة الكهرباء الجديدة الحكيمة التي تحسب
الكيلوواط للعداد المؤقت بعشرين قرشا، فإن زادت الكمية المستهلكة عن1000 احتسبته ب
13قرشا !!!!! فشجعته بهذا القرار العجيب المقلوب الغريب المخالف لكل منطق، على
المزيد من الاستهلاك والصرف، فركّب المكيفات، ونثر مئات اللمبات الداخلية والخارجية
والكشافات التي تحول الليل إلى نهار، لتكون دليلا على أن من تحت هذه القبة عظيم
عتيد، ورجل رشيد، ووحيد عصره، وشيخ فريد، لذلك كثرت ولائمه وعزائمه وحفلاته
وأفراحه وعرطه واستعراضه، وكأننا في دولة لا أثر فيها لأي قانون.
هذا الحال مضى عليه 6 سنوات دون أي
حل، أو أمل بالحل، رغم صدور قرارات حكم قضائية قطعية بالإدانة وإزالة المخالفات،
ورغم إخطارات التنفيذ، ورغم عشرات اللجان التي تغدو وتروح وتكتب التقارير التي لا
تُنفذ، وتبقى رهينة المزاج حبيسة الأدراج، أو يتظاهر المعتدي تحت الضغط بتنفيذ
القليل منها خداعا وتزييفا.
وأكثر من ذلك، فإن المعتدي تجرأ واتبع
حكمة : " رمتني بدائها وانسلّت" ، ومقولة : " ضربني وبكى ثم سبقني واشتكى "
فأخذ يلفق التهم للمجاورين، ويجرجرهم افتراء إلى المحاكم والمحافظة ومراكز الشرطة،
ويضغط عليهم بكل وسيلة غير شرعية لإخراس ألسنتهم وإخماد مطالباتهم بحقوقهم، ليبقى
السؤال الكبير رهن الإجابة :
ماذا يفعل صاحب الحق بعد انتظار كل
هذه السنين، وبعد كل هذا الصبر والتحصن بالقوانين؟؟؟! وهل يبقى مجال لأدنى شك بأن
هذا التهاون مع هذه الفئة هو الذي يهتك الأمان الاجتماعي، ويفتك بالسلم المجتمعي،
وقد يحول أصحاب الحقوق المسالمين إلى منحرفين ومجرمين؟؟!