بقلم: د. حفظي اشتية
تضع الدول المتحضرة أنظمة وتعليمات تضبط الحقوق
والواجبات، وتنزع الخلافات بين الناس، وتراقب ذلك بكل عناية، وتطبقه بكل عدالة،
حتى يطمئن كلٌّ إلى حفظ حقه، ولا يطمع
أحدٌ في غير حقّه.
وضعت وزارة الشؤون المحلية أحكاماً حاسمة لتنظيم المباني
وترخيصها، وفرضت عقوبات صارمة على التجاوزات والمخالفات، وغلظتها كثيراً مطلع عام
2017، لتكون رادعاً مانعاً لكلّ مَن يتجاوزها ويتعدّى على الحقّ العام أو حقوق
الآخرين.
وقد ربطت وصول الخدمات من ماء وكهرباء ..... بالحصول على
إذن إشغال وهذا لا يُحصل عليه إلّا بعد
التأكد من التزام مَن يطلبه بكلّ التعليمات وتصويب كلّ المخالفات واستيفاء كلّ
الحقوق الماديّة والغرامات.
لكنّ ثغرة صغيرة مثل حجر "سنمار" قد تهدم كلّ
هذا النظام المتكامل، وتجعل وجوده كعدمه، وتقضي على قوة ردعه، وتحيلنا إلى وضع
يغيب عنه كلّ منطق، فيستقوي الفاسد الذي اعتاد المروق والتحايل على القوالنين
وتطويعها لخدمة أطماعه، وتسويغ مخالفاته، والاعتداء على كلّ الحقوق.
ذلك أنّ تعليمات شركة الكهرباء تسمح لمن يريد أن يقيم
البناء وفق رخصة إنشائية مقترحة مبدئية، تسمح له بالحصول على عداد كهرباء مؤقت
للوفاء بمطالب العمل، وهذا أمر طبيعي، وحق لا مراء فيه.
يلتزم كثير من الناس بشروط هذه الخدمة المؤقتة، وفور
انتهاء البناء يتقدمون للحصول على إذن إشغال، فيتم لهم ذلك حسب التعليمات التي
التزموا بها، ويتم لهم أيضاً التزوّد بالخدمات المطلوبة، وتُرفع عدادات الكهرباء
المؤقتة ، ويستبدل بها عدادات دائمة داخل البيوت.
لكنّ الفئة المتمردة تشعر بكامل الأمان حال حصولها على
العداد المؤقت، لأنها قطفت بذلك الثمرة النهائية التي انتظرها الملتزمون طويلاً،
وحصلت عليها منذ اللحظات الاولى، فتتحرر دون قيود:
فيعتدي أحدهم على الشارع الرئيسي الذي يربط بين
المحافظات بالسطو على جزء منه، وتضييق الخناق على عامة الناس، ويقيم الأرصفة"
غير المسموح بها خارج التنظيم" ، أمام بيته، ويزرع الأشجار، فيصبح جزءٌ من
الشارع جزءاً من أملاكه الخاصة، ويغلق الشارع التنظيمي الفرعي الذي يخدم الآخرين،
ويضمه مع ما حوله من فضلات إلى ساحة بيته، ويحوله إلى جلسات استراحة وترويح
لضيوفه، ويجرّف الأرض حول منزله واعتداءاته فيعلّق أراضي الآخرين، ويعتدي على
الارتدادات من جميع الجهات، بل يبني على حدّ أرضه تماماً، ويفتح- دون وجه حق-
النوافذ والبرندات المسقوفة معتدياً على حقوق المجاورين، ويتجاوز- بأضعاف- نسبة
البناء المسموح بها وفق القوانين، بل قد يجد موظفاً فاسداً يتحايل على القانون
فيحاسبه على الغرامات وفق سنة 2016 المخفضة ، والبناء كله قام بعد سنة 2017، فتخسر
خزينة الدولة بذلك عشرات آلاف الدنانير لصالح المعتدي الذي يتصرف بتمرّد وبلطجة
ولسان حاله يصيح : أنا فوق القوانين.
يراجع المتضررون البلدية أو هندسة البلديات، فيُقال لهم
مخالفاته حُولت إلى المحكمة، وبعد الانتظار سنين ، يصدر قرار بالإدانة وإزالة
المخالفات، ويكتسب الحكم الدرجة القطعية.
تستمر المراجعة وقتل الوقت، والوقوف على الأبواب
واستنزاف الأعصاب، فتُفجّر المفاجأة العظمى، ويُلوّح بالعقاب النووي المزلزل،
فيقولون: لن نعطيه إذن إشغال. فتصرخ: ياناس، إنه ليس بحاجة إلى إذن إشغالكم،
ويصرّح لكم علناً بذلك، فقد سكن منذ سنين، والكهرباء عنده تحوّل الليل إلى نهار،
مسروقة أو غير مسروقة، مدفوعة أو غير مدفوعة، في زمن تحوّلت " الشيخة"
فيه من المروءة وحُسن الجوار والفروسية إلى توسيع مساحة القرميد وتكثير عدد
الكشافات واللمبات الكهربائية .... فيُقال : راجع شركة الكهرباء.
تراجع شركة الكهرباء، فيخاطبونك بأناقة القوانين: العداد
المؤقت حقّ للمواطن. تقول لهم: هو حقٌّ مؤقت ليقيم بناءً، وليس حقاً يسوّغ له أكل
حقوق الآخرين. فيُقال: التعليمات لا تسمح بفصل العداد طالما تٌدفع المستحقات،
والشركة مستفيدة لأنّ قيمة الاستهلاك أعلى. تراجع الذمم فتجد عليه مبالغ بالآلاف تراكمت
على عدّة سنوات دون متابعة، فيسارع المعتدي إلى الدفع أو التسوية والتصويب، ويبقى
الأمر على حاله. تقول: إنّ العداد خارج البيت، في الشارع أو الأرض المجاورة،
وأسلاكه الممتدة مهترئة ملقاة تحت أقدام المارين، وتشكّل خطراً داهما دائماً.
فيُقال: قدّم شكوى عند المحافظ!!!!!!
يحاصرك اليأس وتنتظر حلّا من عالم الغيب، لتأتي المفاجأة
والمكافأة الأخيرة في حسبة الفواتير الجديدة العتيدة : إذ تبيّن أنّ سعر الكيلوواط
المستهلك في مثل هذه العدادات قد تمّ تخفيضه من 20 قرشاً ( وكان يُظن أنّ هذه
عقوبة عاتية) إلى 13 قرشاً إذا تجاوز الاستهلاك الف كيلو، فينفتح أمام المعتدي
بابٌ عجيبٌ واسع تشجيعيّ للسباق ليستهلك أكثر حتى يحصل على تخفيض أكبر!!!
وهذه حقاً إحدى الكُبر !!!!!!!
في لقاء مع رئيس دائرة الكهرباء في إحدى المحافظات قال:
لو كان عندي أنا عداد مؤقت، فلن أتقدم بالحصول على إذن إشغال لو كان رسمه دينارين
فقط، لأن تكلفة فاتورة العداد المؤقت أقل !!!!!!!
نقول: إذن، ما فائدة كلّ قوانين البلديات المتعلقة
بالتنظيم والترخيص والمخالفات؟ وما هو الحلّ؟
هل نشجّع كلّ مواطن على العداد المؤقت ليعتدي كما يشاء،
ويقلّل قيمة ما يدفع ( هذا إن دفع)؟ أو نسعى سريعاً إلى ربط استمرار العداد المؤقت
بالحصول على إذن إشغال، فيتم فصله فوراً إن شُغل البناء قبل الحصول على ذلك الإذن؟
أو نطلق الحرية للمتضرّر أن يأخذ حقّه بيده، ولا ينتظر القانون الذي لم يسعفه،
فتحصل مذبحة عند كلّ بناء مخالف؟ فإن لم يكن هذا ولا ذاك ولا هذه ولا تلك، فليس
أقل من رفع قيمة الاستهلاك إلى الحد الموجع الذي لا يشجّع على الاعتداء، بل لا
يسمح به أصلاً. وفي الوقت نفسه توضع الآليات القانونية العاجلة بإلزام المخالفين
بتصويب مخالفاتهم ودفع المستحقات، سواءً حصلوا أم لم يحصلوا على عدادات.
ملاحظة: لدى الكاتب الأدلة الكافية على ما ورد في المقال
إن وُجد مَن يبحث عنها أو يهمه أمرها.