وردت كلمة الفساد ومشتقاتها في القرآن الكريم في خمسين آية، أكدت جميعها
أن الفساد قديم قدم الإنسان، كما عددت الكثير من أوجه هذه الظاهرة، فأعلنت أن
الفساد هو عكس الإصلاح، وقد يُهلك النسل والحرث والأرض، ومنذ أن حطّ الإنسان على
هذه الأرض وحتى اليوم، وهو يئن من فساد أخيه الإنسان، إلاّ أن جهود مكافحته بقيت
متواضعة، لا تكاد تنجز شيئا على أرض الواقع، على الرغم من تشريعها خاصة في الدول
التي عانت دائما من أوضاع بائسة، كان الفساد فيها أساسا للعجز والفقر والجوع.
يُعرّف الفساد لغويا بأنه
الخروج عن الاعتدال قليلا أو كثيرا، وهو عكس النزاهة، ويعني كل ما يشوب الحياة من
عمل سلبي، أمّا من الناحية الاصطلاحية وبحسب تعريف منظمة الشفافية الدولية فهو
يعني إساءة استخدام السلطة من أشخاص أو موظفين ينقصهم الوازع الديني، والوطني، والأخلاقي،
إلاّ أن المنظمة لا تأبه بتحديد التعريف بقدر ما تركز على تعريف الناس بأوجه
الفساد المنتشرة في العالم مثل: الرشوة، الاختلاس، الغش، غسيل الأموال، استغلال
الوظيفة، تزوير الانتخابات، الثراء غير المشروع كما ركزت الاتفاقيات الدولية على
حماية المبلّغين، والشهود، والضحايا والخبراء.
النتيجة المباشرة لآفة
الفساد وإفشال جهود مكافحته، أنه يصبح بيئة عامة موبوءة تصيب الجميع، فيتمدد الفقر
ويزيد، وينتج عنه جوع ومرض وجهل وانحطاط في القيم والاخلاق، فالفساد يطال الناس
والحرث والزرع، وما فوق الأرض وتحتها، مما يجعل الأفراد والمجتمعات تفقد الحيلة إزاءه،
أو حتى التفكير في الحد من آثاره، وعندها تُنزع الثقة بين الناس ودولتهم، وبينهم
ومؤسساتهم، فيصابون برضا العجز، أو العجز المكتسب من بيئة الفساد، فيسلمون بكل النتائج،
تبعا لما يتملكهم من يأس وقنوط في التغيير.
ما يحدث في بلادنا اليوم
أننا نغرق قي ظلام الفساد، ونتقلب بين المفاهيم التي تؤسس للفساد ولا تكافحه، تديره
ولا تعالجه، تتستر عليه ولا تفضحه، نتوه بين فساد الإدارة، وإدارة الفساد، بل
وإدارة بالفساد.
تفسد الإدارة باستغلال
السلطة والوظيفة الرسمية، وما يتعلق بها من صلاحيات ونفوذ، لتحقيق المكاسب الشخصية
أو الخاصة؛ مثل توسيع النفوذ، وتحقيق الثروة، بل وإحكام السيطرة على الأخرين،
وبدلا من الوقوف في وجه هذه الممارسات، وتشجيع الجهود للحد منها، فقد ذهبنا في
بلادنا إلى مفهوم أخر، وهو إدارة الفساد؛ بمعنى وجود اتفاق ضمني في المؤسسة على
تأطير حدود للفساد، لا يمكن تجاوزها من جميع مستويات الإدارة، وطبعا يهدف لتحقيق
الثروة والنفوذ لكن باحترام شديد للحدود المرسومة، لكن عند تجاوز هذه الحدود قد تنهار
المؤسسة أو النظام.
بين المفهومين السابقين
فساد الإدارة وإدارة الفساد نشا مفهوم ثالث لدينا، وهو إدارة بالفساد، وهنا تعمل
الإدارة العليا على تجاهل أو تشجيع الممارسات التي تبارك الفساد، مما يمكنها لاحقا
أن تهدد بكشف المستور لإحكام السيطرة على الجميع من خلال ضبطهم متلبسين، مع أن الإدارة
ذاتها دعمت السلوك الفاسد.
بقراءة مؤشر مدركات
الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية للعامين الماضيين (2019-2020)، نجد أن دولة
الامارات العربية كانت الأقل فسادا بين العرب، واحتلت المركز الأول بينهم و
المرتبة (21) عالميا، تلتها دولة قطر ثانية عربيا والمرتبة (30) عالميا، كما تذيلت
ست دول عربية القائمة العالمية التي تشمل (180) دولة، وهي سوريا، اليمن، السودان، ليبيا،
الصومال، لبنان، وما بين رأس القائمة وذيلها، حافظت دول مثل الأردن والسعودية
والمغرب والبحرين والكويت والعراق والجزائر وموريتانيا -تقريبا-على ترتيبها، وتقدمت
دولتان هما عمان وتونس بدلالة إحصائية، وبنفس الوقت تراجعت مرتبة دول عربية مثل المغرب
ومصر وجيبوتي ولبنان أيضا بدلالة إحصائية واضحة، ذلك يشير إلى فشل أو عدم فاعلية جهود
مكافحة الفساد على أقل تقدير، خاصة في ظل جائحة كورونا، مما يُخشى أن الفساد تركز بهذا
الظرف في جانب صحة المواطن، وتدابير الوقاية من الجائحة.
يتغول الفساد علينا بما
لا يدع فرصة للتقدم، أو التغيير، أو تحسين حياة الناس، ويعود ذلك إلى أن جهود
مكافحة الفساد وما ينتج عنه من فقر، لا تحظى بدعم مناسب يوازي عِظم الخطب، مثلما أن
التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية والاعلام الهادف شبه مفقود،
لكنّ الأهم من ذلك أن غياب الإرادة السياسية التي تعتبر المحرك الأساسي لهذه
الجهود يُفقدها أية قيمة حقيقية، وما أدل على وطأة الفساد من أن نجد المنادين
بالإصلاح يقبعون بالسجون، وأمّا المفسدون نراهم خارجها يتنعمون.
الدوحة - قطر