ربما كانت الأحداث التي صاحبت الاستحقاق الرئاسي الأخير في أمريكا، وما
رافقه من شغب وعنف لامس حدود البيت الأبيض نفسه، وما سبق ذلك من اعتراضات ونقاشات
صاخبة حول نتائج الانتخابات، ومن ثم حفل التنصيب الذي غاب عنه الرئيس المهزوم لأول
مرة، جعلت البعض يبالغ في تقدير العواقب، بل وصل الأمر ببعضهم أن بدا يطلق التوقعات
بحدوث جروح جسيمة في جسم الاتحاد، حد تفتته أو تبعثره، بل واُسترجعت المقارنة مع
ما حدث مع الاتحاد السوفياتي أوائل تسعينات القرن الماضي، أي أنهم ذهبوا بعيداً
بعيدا.
عند المقارنة الموضوعية بين الحالتين ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا فروق
أكيدة، منها أنه في ظل حكم السوفيات كان المواطن فيها مسحوقا، يرزح لسلطة فاسدة
متعالية، وبالتالي ما أن حانت فرصة الهرب حتى فلت الجميع، بل أن السوفيات انهزموا
دون معركة عسكرية واحدة في ظل سياسة سباق التسلح التي أوقعهم بها الغرب بما يشبه المصيدة،
لكنّ الوضع في الاتحاد الامريكي مختلف من عدة وجوه؛ أهمها أن المواطن يحظى بدخل مناسب،
وحرية يُحسد عليها، وجواز سفر يتفاخر به تحميه الاساطيل العظيمة، وولايات تحظى بما
يشبه الحكم الذاتي، أمّا سباق التسلح فكانت تقوم به شركات خاصة، فكان ذلك كله مصدر
قوة لا ضعف ومدعاة للتمسك بالوحدة لا الانقلاب عليها.
المهم أن تنصيب رئيس جديد في البيت الأبيض يترتب عليه حسابات، لا تأبه
للمسافات، ونحن في منطقتنا العربية نتأثر بها، حيث نتابع جميعا الحملات الانتخابية
التي يُعد لها لزمن طويل، حتى لا تظهر أمام الناخب الأمريكي أنها مبتذلة، بل إن
الرئيس قد يبقى نصف دورته يستعد لها، ومن ثم يتابع العالم مشدودا عملية الانتخاب
ونتائجها، وكل دولة تتحمس لمرشح ضد أخر تبعا لما تعتقده من قربه أو بعده من قضاياها،
لكن دون تدخلات ظاهرة في هذا الشأن.
أعود إلى ما حدث في الولايات الامريكية من خروج على تقاليد راسخة
امتدت لأكثر من قرنين من الزمن، حيث إن ما يتعلق بممارسات الحملات الانتخابية، كما
يوم الانتخاب ذاته، واحتفال التنصيب، كلها تخضع لمراجعات دورية، فحتى التبرعات للحملات
الانتخابية، وأوجه صرفها، يُعاد النظر فيها، لكن المظاهر السلبية تلك تحتم أن يُقرع
الجرس بقوة هذه المرة.
ربما لا أبالغ إذا ادعيت أن منطقتنا العربية كانت على الدوام الأكثر تأثرا
بالسياسات الامريكية، على بعد الشقة بيننا وبينهم، حيث ترتبط مشاريعنا التنموية وإصلاحاتنا
السياسية والاقتصادية بما يمكن أن توافق عليه أو تعترضه، بل وبما يتعلق بأخذ
الموافقة على تنصيب أي حاكم جديد لدينا، أمّا ما يتعلق بتحديات الاحتلال واسترجاع
الأرض من بين براثنه، فيبدو أنها لم تعد في قائمة الأولويات لدى الطرفين الأمريكي
والرسمي عندنا.
يقول الشيخ حمد بن جاسم رئيس وزراء دولة قطر الأسبق" أننا في
المنطقة لا توجد لدينا سياسات بقدر ما ننتظر من يدخل البيت الأبيض ليُباشر العمل
تبعا لتوجه ساكن البيت الأبيض الجديد وإدارته". وقد يجرنا أي عهد امريكي إلى
حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، قد تدمر بنيتنا التحتية، وتدمر اقتصادنا، وما
بنيناه أو أنجزناه خلال عقود، فهذا شكل محوّر من الاستعمار أراحهم أيما راحة، طبعا
يتم ذلك كله تحت شعارات زائفة مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأهمها الشرق
الأوسط الجديد لضرب أمتنا في الصميم.
صورة المرشح الأمريكي القادم للبيت الأبيض تقوم عليها وكالات محترفة
لصناعة النجوم، ترسم الصورة الذهنية له بحرفية عالية، وترتكز على قواعد علمية مدروسة
بدقة، فكل مشهد مخطط له سواءً كان مع أسرته أو بين الجماهير، ولا مجال للصدفة أبدا،
بدءً من حركة يده وهو يلوح للجمهور، حتى المناظرات التي تغوص في عمق القضايا
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أمّا الناخب الأمريكي فينساق وراء لعبة البريق
الشخصي للمرشح، ويبدو كمن ينبهر بغلاف الهدية أكثر من الهدية ذاتها، وما يدفعه نحو
الصندوق هو رفاهيته، وشأنه الداخلي من ضرائب وبطالة وزيادة دخل، وتقبع السياسة
الخارجية في ذيل أولوياته، لكن شعبية الرئيس تبقى مرصودة باستطلاعات الرأي العام
المتعاقبة، كما لا يغيب عن الذهن قوى اللوبي، بما تتبرع به، وما تمارسه من ضغوط، وبالنهاية
تُزّين أو تُزّيف صورة الرئيس، مثلما الإعلان التجاري تماما.
لكن إذا كانت هذه الصورة لديهم فكيف هي لدينا؟
على حين غرة يهبط علينا الزعيم، لا
يحتاج برامج ولا انتخابات ولا مناظرات، ولا حتى لتلميع الصورة، فالمحيطون به من
الحاشية والبطانة والمطارزة هم من يجملّون الصورة، ليصوروا الفساد والفشل في كل
مناحي الحياة على أنه إنجازات عظيمة، والموت وحده صانع تداول السلطة في الشكل فقط،
وما زال التاريخ لدينا يلد نفسه، ويتكرر على شكل مأساة أو مهزلة، فهذا هو الشاعر ما
زال يردد "وأجمل منك لم تلد النساء"، وما زال صدى صوت ابو هانئ الاندلسي
منافقا الخليفة المعز لدين الله الفاطمي" يصم آذاننا
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وما يثير العجب حقا أن اختيار الزعيم لدينا يبدو وكأنه مسالة عائلية
داخلية، تستوجب الموافقة الامريكية، لكنها لا تخص الشعب أبدا، فالشعوب عادة تختار
رئيسا خادما لها، بينما عندنا يختار الزعيم الشعب ليحكمه.
يشبه عالم اليوم الأواني المستطرقة عندما يهتز السائل فيها بأي فعل أو
تحت أي ظرف، يتدافع السائل فيها جميعا، لكن سرعان ما يعود إليها الاتزان، وحيث أن الحديث
قياس، فإن النظام الامريكي يشبه أي نظام طبيعي أخر عندما يتعرض لهزة أو تصرفات
طائشة، فإنه يعدّل نفسه بنفسه، ليعود إلى توازنه من جديد، حيث بات تنصيب الرئيس
الأمريكي رئيسا للعالم ويمس حياة الناس من كل الاجناس.
الدوحة - قطر