بقلم: د. حفظي اشتية
قرية سالم تبعد عن نابلس أربعة كيلومترات شرقا. في خمسينيات القرن الماضي تعرّض أحد رجالها الأشدّاء إلى اعتداء ظالم، كَمَن له عدو، وأطلق عليه عيارا ناريا ذهب بإحدى عينيه، وجزء من أنفه ووجنته، لكنه نجا إلى حين من موت محتم وقدر نافذ.
كان خصمه ماكرا، فقلب خلال التحقيق الحق باطلا والباطل حقا، فسُجن المظلوم.
مكث أياما في سجنه لا يأكل ولا ينام ولا يحادث أحدا، والمساجين يتهيّبونه ويتجنبونه.
وفي ذات هدأة وسكون، تفجرت بين ضلوعه كأس الظلم التي تجرّعها، ففاضت منه الشجون، وصاح بصوت مجلجل عذب مطرب تردّدَ صداه في جنبات السجن وردهاته، وأنصت الجميع إلى هذا الصوت العجيب الساحر العابر من عالم آخر:
أصيح الصوت وفعل الصوت باطل على اللي قدموا الدعوات باطل
طلبنا الحق قالوا الحق باطل وضاع الحق والباطل مشى يااااايابا
تغلغلت نغمة الصوت النائحة الرخيمة العذبة، والصدق الذي تزخر به الكلمات، وأنين القلب الموجوع، في نفوس السامعين ومنهم مدير السجن، الذي استدعى الرجل، واستنطقه عن حكايته، وآمن بصدقه، ونقل أمره إلى القاضي وكان على علاقة وثيقة به.
أعاد القاضي النظر في أوراق القضية بعين المدقق الباحث بعمق عن الحقيقة والحق، فوجد أن أحد الشهود لم يُستمع إلى إفادته اكتفاء بغيره، فعوّل على شهادته أملا، وتمّ الترتيب قانونيا بفتح الملف مجددا للتحقيق، فتغير الحكم جذريا، وبُرّئ المظلوم.
نستذكر هذه الحادثة ونحن نعاين ونعاني من حالات ظلم تزخر بها حياتنا، وتشيع في مؤسساتنا في غياب الضمائر النقية، والرقابة الجادّة الذكية، والمؤسسية الوازنة الشرعية.
إن بعض المسؤولين في بعض مؤسساتنا وجامعاتنا قد استمرأوا الظلم، واستمروا به، وأصبح لهم ديدنا وعادة دائبة دائمة:
ــ يظلمون ويتجاهلون أنهم بظلمهم يهدمون أركان المؤسسة، ويقلقلون بنيان الوطن، ويزلزلون الانتماء إليه، ويطمسون الأمن الوظيفي والمجتمعي فيه.
ــ يظلمون ويقربون منهم من هم على شاكلتهم من عديمي الضمائر، مريضي النفوس، فيضرب ربّ البيت بالدفّ، وأعضاء الجوقة يمرحون في حاشيته ويتراقصون، والمؤسسة تتداعى وتتحول إلى مكان كريه غير مأسوف عليه ولا مرغوب فيه.
ــ يظلمون فيحوّلون موظفي المؤسسة إلى فئات معظمها لا خير فيها، ولا صلاح يرتجى منها:
ــ فئة في طبعها ظالمة، فتجد جوّ الظلم العامّ مألوفا مشجعا، فتتألق في ظلمها وتنسجم وتبدع.
ــ فئة منافقة متملقة تزين للظالم شر أعماله لتظل قريبة من الحومة حيث المكسب والغنيمة المزعومة.
ــ فئة انتهازية لا ترى إلا مصلحتها الشخصية، تغلّبها على كل شيء، وتردد : أنا, ومن بعدي الطوفان.
ــ فئة تؤمن بالتقيّة، فتقول في السر كل ما لا تجرؤ على قوله والتصريح به في العلن.
ــ فئة ضعيفة متهاوية تحسب كل صيحة عليها، تسير بمحاذاة الحيط، بل تبحث عن كُوّة للدخول فيه.
ــ فئة سوية لكنها تؤثر السلامة، شعارها : لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، وتتلفع بقناع الحكمة البالية، وترى الجبن تعقلا وبعد نظر.
ــ فئة سوية قوية حاولت الإصلاح، لكن قوى الشر تكالبت عليها، فدحرتها منبوذة مغلوبة على أمرها مقهورة.
ــ فئة سوية قوية ترى أن مصلحة المؤسسة أهم من مصالحها الشخصية، وأن الوطن فوق الجميع، وأن الظالم العابث يجب أن تُكف يده، ويوقف عن حده. وهي تؤمن يقينا أن ثمن مواقفها، وحفاظها على مبادئها باهظ، وأن مهر الكرامة والذود عن الحق غالٍ، وأن الموازين مهتزة مختلة، والظروف عليلة معتلة، لكنها آثرت المنيّة على الدنيّة، فواجهت الظالم، وجابهته، وتساقطت أنفسها نفسا إثر نفس في مصارعة طاحنة غير متكافئة، نتائجها الظاهرة محسومة لصالح الباطل، لكن للحق حسابات أخرى، وللكرامة غرامة مستحقة.
هذه الفئة وحدها تستحق أن نخاطبها بما تعرفه، ونوصيها بما تحرص عليه وتتقنه وتلتزم به، ونستعيد معها صيحات ذلك السجين الجريح المظلوم الذي وجد من ينصره، ونستلهم معها أيضا صرخات الشاعر الملهم " أمل دنقل " عندما خيّم اليأس والتخاذل، وتوارت بطولات المكبّرين العابرين نحو مجد الأمة، وحقها التليد المقدس، وخذلتها السياسة في سوق الأوهام، فكانت كلمات "دنقل" مشاتل صبر وإصرار، ومشاعل أمل وأمانٍ وأحلام، وجلجل صوته بوصايا "كليب للزير" أن يطرد إلى الأبد عن نفسه فكرة المهادنة والاستسلام :
لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبّت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟؟؟؟!
هي أشياء لا تشترى.....
نعم، إنها أشياء لا تشترى، فلم نسمع يوما عن أسواق شرعية للكرامة والمبادئ، إنما هي أسواق نخاسة وصفقات بائسة بين مشترٍ انتهازي بشع، وبائع متهالك هانت عليه نفسه، فخلع رداء الحرية الفطري العُمري، وارتدى لبوس العبودية والهوان، فبئس المشتري والبائع....