تجتاحنا السنين وتطوينا أيادي الزمن، ونغرق بآمال عِذاب، أو الآم
العذاب، ونعافر في هذه الحياة، تشرق الشمس فلا تستأذننا، وتغيب دون أن تودعنا،
ويجرفنا الحنين إلى ماضٍ لا يعود، ونبحث بعناء اليائس عن تحقيق هدف منشود، ثم نعود
إلى واقعنا، ونطوي جوانحنا على جراحنا، وننتظر وعداً لا يتحقق، وتبقى الأمنيات
طيوراً مهاجرة إلى عالم الأحلام.
- ويدهمنا موعد يوم ميلادنا، فنستيقظ مبكراً، نستمطر الفرح، ونستقطر
الأسى، نعانق بُكرة الصباح، ونحدَق في الشيب الذي غزا ولاح، ونعاين الكون، ونرصد
المشاعر، وتتلون بها الأشياء من حولنا:
ها هي الشمس باسمة لميلاد أمل جديد، أو باكية على مسار قدريّ عنه لا
تحيد، وها هي طيورتغدو وتروح وتغني جذلانة، وتملأ الفضاء الرحب مرحاً وإقبالاً على
الحياة، وحمائم أخرى تبكي وتنوح في هديل دائم على موت الأليف، وحزن مقيم لا
يفارقها منذ عهد نوح، وها هم الأطفال يلهون ويلعبون ويعبثون وهم ساهمون غافلون عما
تخبئه لهم المقادير، وشيوخ قد حفر الزمان أخاديده الغائرة على جباههم، ونظراتهم
التائهة يسيل دمعها على شباب تولى، وآمال تبددت، وندم على ما فات، وخوف مما هو آت.
- ونستحضر حكاية أبيات وجيزة الألفاظ، غزيرة المعاني، سال بها قلب
الشاعر الوجداني (كامل الشناوي)، ودفع بها إلى مطرب الزمان (محمد عبدالوهاب) ،
وبقيت عنده حولاً كاملاً وهو عاجز عن تلحينها، ثم انتقلت بعد استئذان إلى العندليب
الحزين قيثارة الشرق (فريد الأطرش)، ففجرت في حناياه الوجد الدفين، فبكت أوتار
قلبه على أوتار عوده، وضمها صوته القوي النقي الشجي، لتكون ملحمة فنية خالدة تحاكي
فجيعة الحياة، وعدمية النهاية :
- عدت يـا يوم مولدي عدت يـا أيهـا الشقي
الصبا ضاع من يدي وغزا الشيب مفرقي
ليـت يــا
يوم مولدي كـنت يومــاً بلا غـدِ
لـيت أني
مـن الأزل لـم أعـش هذه الحياة
عشت فيهـا ولم أزل جــاهلاً أنهــا حيــــاة
لــيت أني
مـن الأزل كنـت روحا ولـم
أزل
أنـا عمرُ
بــلا شبـاب وحيــاة بــلا ربيــع
أشتري
الحب بالعذاب أشتـري فمــــن يبيع ؟!
أنا وهم ..... أنا ...... أنا ..... أنا سراب
ملاحظة : ولد فريد الأطرش يوم عيد الأضحى 1333 هـ ، وتوفي ثاني يوم
عيد الأضحى 1394 هـ ، فكان يوم مولده يوماً بلا غد .