نشكو كثيرا من ظلم بعض المسؤولين، وتملأ صيحاتنا الجنبات، ولكل منا
حكايته وأوجاعه. ولعل كثيرا مما نقرأ ونسمع يكون فيه صاحب الشكوى على حق، وحاول
بكل وسيلة أن يرفع الظلم عن نفسه، وطرق الأبواب، وغرق في المحاكم، وحقه يلوح أمامه
مثل سراب في أرض بلقع، يُغذّ إليه، حتى إذا جاءه تسرب من بين يديه.
ولا شك أن صاحب القرار الظالم هو المسؤول الأساسي عن كل حالة، والسبب
الرئيسي لكل قضية.
لكن دعونا ننظر للأمر نظرة موضوعية من زاوية أخرى، لنبحث عن دور
المجتمع في هذا الظلم، ثم نواجه أنفسنا بالحقيقة المجردة لنجد أن هذا المجتمع هو
المسؤول الأول، والمسبب الأهم، لمعظم ما نعانيه من تهالك وتهافت وفساد وظلم.
والأمثلة الدالة على ذلك تكاد تستعصي على الحصر، نجتزئ منها للتدليل عليها،
والتذكير بها، فكلنا يعرفها ويعانيها ويكتوي بنارها ويشارك فيها.
ــ نحن(المقصود بها بعضنا حيثما وردت)الذين توسطنا لهذا المسؤول ليدرس
على حساب الدولة، ثم يعين بالواسطة، ويتقافز كذلك على سلالم الترقيات والمناصب،
ليتقن كل أساليب العبث والمكر والوصولية، ويبرع في نسج العلاقات المجتمعية التي
تخدم مصالحه، ويبدع في الترنم بالحكايات الأسطورية عن حب الأوطان، والتفاني في
خدمتها، والتقيد الصوري العمري بأخلاق المهنة، والشرف الوظيفي، والانتماء للرؤى،
والالتزام بالأنظمة والتعليمات. والأصل أن كل ذلك ألاعيب إعلامية بهلوانية، ينبغي
ألّا تنطلي على المجتمع، لكن هذا المجتمع يعرف ويحرف، ويتمثل على الدوام بقول أبي
تمام :
ليس الغبي بسيد في قومه لكنّ سيد قومه
المتغابي
ــ نحن الذين نتشدق بحب الوطن والدفاع عن مصالحه، والحفاظ على
مقدراته، ومحاربة الفساد فيه، ومقاومة الهدر والإسراف في هيئاته ومؤسساته، لكننا
عندما تبرق أمامنا فرصة الظفر بالمنصب، يسيل لعابنا، ونغوص حتى الذقون فيما كنا نرفع
عقائرنا أمس في معارضته ورفضه!
ــ نحن الذين نسرق المياه لنبيعها بأغلى الأثمان لخلق الله، أو نسقي
بها مزارعنا الخاصة، حتى إذا وجدنا فئة من الناس يتذمرون من العطش، انضممنا إلى
الجوقة، وكنا الأعلى صوتا في الجأر بالشكوى من شح المياه، وارتفاع الفواتير، وكثرة
الناهبين ونحن منهم!
ــ نحن الذين نسرق الكهرباء لإضاءة عشرات اللمبات غير الضرورية،
والعديد من الكشافات الضخمة، ونحول ليلنا وليل جيراننا إلى نهار فاضح، لا مكان فيه
للتنعم بهدأة الظلام، وراحة السبات، لأننا بذلك ننتزع من المجتمع الأحكام الزائفة
بأن صاحب هذه الأضوية الكاشفة من علية سفلة القوم، وأن نفوذه وسلطته وسطوته تقاس
بمقدار ما يسرق من الملكية العامة، والحل سهل : أضيفوا المبالغ المفقودة المنهوبة
على فواتير خلق الله المساكين الملتزمين!
ــ نحن الذين لم نطالب منذ عقود من السنين أن تكون لدينا وسائل نقل
لائقة مثل دول العالم الأول أو الثاني أو الثاني عشر، وأسلمنا مصائرنا لقبضة من
المستثمرين الطماعين، ملأوا شوارعنا بهياكل حديدية سرطانية متهالكة، تتنازعنا فيها
مزاجية السائق، وعبثية "الكونترول"، وجشعية المالك، فكان أن فررنا إلى
سيارات "الكيا" تعربد وترغي وتزبد، ورواتبنا تتثاءب بين 300ــ400 دينار،
والبنوك فاغرة الأفواه جاهزة للفتك في جدولة إثر جدولة، والحالة تتساقط وتهوي
مرحلة إثر مرحلة.
ــ نحن الذين أرقنا ما تبقى من مياه وجوهنا على أبواب كبار المسؤولين
المتقاعدين، الذين تمزق الوطن على أيديهم، وببركات تخطيطهم، وتربربت المديونية في
نعيم قراراتهم، وبعد أن أدوا أماناتهم!! ما أعطيناهم فرصة لالتقاط أنفاسهم،
فحولناهم إلى خطّابي عرائس، وتجاذبناهم، وتنافخنا بوجودهم، وتشرفنا بالتقاط الصور
معهم، وتدلت آذاننا لهم ونحن نسمع خطب قس بن ساعدة تسيل على ألسنتهم، وتناومنا إلى
التصديق بأن كل عائلة من عائلاتنا كما يصفونها هي لباب الكرم والسؤدد والشجاعة
والحكمة والفصاحة والتقى والمجد والوطنية والجهاد....فإن كنا جميعا حقا كذلك، فلما
نشكو سوء حالنا؟!
ونحن الذين تزاحمنا على مورد غير عذب من مذكراتهم، ونحن نعلم حالهم،
ونكتوي بنار أمجادهم، وتوهمنا مخطئين أننا سنطالع عندهم تجربة مهاتير محمد، أو
تشرشل، في بناء الأوطان والدفاع عنها والحفاظ عليها.
ــ يقول الكاتب اللاذع" وليد عليمات" في آخر مقالة له : إنه
لا يستطيع أن يقول للعرص عرص بعينه، لأنه سيضطر بعدها إلى الاعتذار له، أو الإصرار
على موقفه وتحمل السجن وقطع رزق الأهل والولد.
وأنا أقول: وما فائدة أن تقول له ما أردتَ قوله، وهو أعلم الناس
بحاله، إنه يعلم علم اليقين أنه كذلك، ويعلم علم اليقين أيضا أنه لو لم يكن كذلك لما
وصل إلى ما وصل إليه. ونحن نعلم أننا برفضنا أن نكون مثله سوف نعاني ونعاني، وندفع
الثمن فوق الثمن، لكننا سنظل نحافظ على مبادئنا، ونصر على عدم كسر إرادتنا،
وسنصبر، وسنصمد، وسنستمر في مواجهته مهما كانت النتيجة : قد تكون له، ثم له، ثم
له، لكنها حتما ستكون يوما عليه. وإذا عيل صبرنا، وعز نصيرنا، واضطررنا إلى
مواجهته فالأولى ألا نعيّره بصفة هي مصدر فخره، وهو أعلم الناس بها، بل ننشب
أظافرنا بعنقه، ونحدق في عينيه بصمت :
الصمت أولى بالفتى
من منطق في غير حينه
لا خير في حشو الكلام
إذا اهتديتَ إلى عيونه