في هجير الإحباط تهب علينا أحيانا نسمات أمل طال انتظارها.
ــ الخبر:
( أقر مجلس هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها إيقاف
العمل بمنح شهادة ضمان الجودة على مستويات : المؤسسة، الكلية، البرامج كافة ).
ــ المبتدأ:
منذ عدة سنوات ظهرت فكرة تشجيع بعض المؤسسات المميزة وتكريمها بمنحها
شهادة جودة تكون توصيفا صادقا لأدائها، وحافزا لغيرها لكي يحذو حذوها، وينهج
نهجها.
كانت الفكرة ذاتها سليمة، بل ضرورية لتثوير التنافس الإيجابي، وجني
ثماره الواعدة. لكن الأمر شابهُ بعض التشوه عندما تكالب بعض الأدعياء على خطف ما
لا يستحقون، فبرعوا في التزيين الشكلي، ومارسوا كل وسيلة ممكنة للظفر بشهادة جودة
قد يكونون أبعد الناس عن استحقاقها، ونيل تكريمات قد يكونون أولى الناس بعكسها.
ــ وتكاثرت التكريمات، والمراقب ينظر ويصرعه العجب : إذا كانت الجودة
قد خيمت علينا وضربت أطنابها هكذا، فلماذا لا نلمس آثارها، وننعم ببركاتها ؟!
وقد يصل الإحباط أحيانا إلى أقصى مداه، ويفقد الأمر مضمونه ومعناه،
إذا سمعنا عن تكريم مؤسسة ما بشهادة جودة، بينما نجد بعض الموظفين فيها والمقربين
منها والمطلعين على أحوالها، يلحظون بعض ملامح تخبطها، وتردي إدارتها، وتهافت
قراراتها....
ــ كان يُخشى من أن تتحول الشهادة إلى استثمار إعلامي شخصي للمسؤول
الذي كانت أحيانا تطالعنا صورته الباسمة في المواقع الإعلامية، يسلم الشهادة
للمدير أو عميد الكلية المعنية، وابتسامات الرجلين تملأ الرحب، ولعل الشهادة
بينهما حائرة صائحة : ( أضاعوني وأي فتى أضاعوا؟... )
ويغتنمها المسؤول "الكبير" فرصة للتغني بهذا الإنجاز
الخارق، وإثبات أنه أهل للبقاء على رأس المؤسسة، أو القفز إلى ما هو أعلى منها.
ويغتنمها أيضا صاحب الشهادة للإشادة بعبقرية المسؤول "الكبير" وبديع
إدارته، وعظيم حكمته وحنكته وتوجيهاته، نعم، توجيهاته العديدة السديدة العتيدة
الشديدة الرشيدة الفريدة....إلخ
وهكذا تصك مسامعنا هذه العبارات الممجوجة المكرورة التي تصيبنا
بالغثاء. كلنا يتمنى النجاح الحقيقي والفلاح الأكيد لمؤسساتنا، لكن الموضوع قد
يخرج أحيانا عن جادة الصواب ليصب في صالح المسؤول "الكبير" والمسؤول
الصغير"المكرّم" : هذا يروج لنفسه ليبقى في منصبه، وهذا يخطب ودّه ليحظى
برضاه ويبقيه مكانه، بينما الجنود المجهولون في المؤسسة ضائعون بين حانا ومانا.
ــ لا مناص من مراقبة مؤسساتنا التعليمية ومتابعة أدائها، وملاحقة
مسؤوليها بالثواب والعقاب، وكل هذا ضروري جدا للارتقاء بها، وتنقيتها من شوائبها.
كنت ذكرت في مقال سابق : إن بعض الإدارات " مثلا " تتم فيها
المخاطبات بأسلوب إدارة العصور الوسطى بل هو أدنى، فتجد " مثلا " قسما
أكاديميا ليس فيه سجل وارد أو صادر، يسلّم المدرس استدعاء لقسمه في أمر شديد
الأهمية، فلا يعطيه القسم ما يثبت أنه سلّم استدعاءه، فيكون محتاجا إلى شهود إن
لزم الأمر لإثبات ذلك، وقد لا يُحتفظ بملفه بنسخة مما قدمه، ويُرفع الاستدعاء إلى الكلية،
فلا يعاد للمدرس ما يثبت ما قدمه أيضا، وقد يضيع الاستدعاء أحيانا، وينقطع خبره
وأثره. وينتظر المدرس شهورا طوالا فلا يتلقى جوابا، فيسأل قسمه، فيقال : رفعنا
الاستدعاء إلى الكلية. فينشد من الكلية جوابا فلا يجد. فيطلب رقم الوارد أو
الصادر، فيقال : هذا ممنوع وفق التعليمات والاستشارات القانونية!!! فيقول : يا
قوم، يا عاقلون، هذا خلل في المخاطبات الرسمية، فيستجوب عن مقصده بكلمة خلل!!!
فيخاطب المدرس المسؤول " الكبير " ، فيقال له في الكلية : لن نرفع كتبك،
وليس لك شيء عندنا!!! فيخاطب الجهات الرقابية العليا فلا يجد نصيرا، بل يجد نفسه
يبكي وطنا هكذا تُدار المؤسسات فيه، وينكفئ على ذاته محبطا، بينما تلاحق الكاميرات
المسؤول "الكبير" يترنم بتراتيل الالتزام بالرؤى والأنظمة والتعليمات!!!
فهل هذا هو ما يستحقه هذا الوطن وأبناؤه ومؤسساته؟
ــ لقد كانت لدينا جامعات ومؤسسات نفاخر بها الدنيا، وجودتها كانت
تتجلى في واقعها لا في شهادات تُمنح لها، لأن شهادة الجودة الحقيقية كانت للضمائر
النقية، والنفوس السوية، والإدارات الحكيمة الرحيمة القوية. وإذا كان مطمح الأمم
هو التقدم، فمن عجب أننا نتمنى أن نعود إلى ما كنا عليه، والعود أحمد، لتعود
مؤسساتنا إلى الصدارة بجدارة.
ومن موجبات ذلك تفعيل المراقبة الحقيقية النزيهة الموضوعية الذكية،
وفتح الأبواب للاستماع إلى أصوات المظلومين المكلومين وإنصافهم بعد التثبت من صدق
مظالمهم.
ــ حسنا فعلت هيئة الاعتماد بإيقاف إصدار شهادات الجودة، واتجهت للبحث
عن وسائل حكيمة موضوعية دقيقة للمراقبة والتقويم، لأن الاكتفاء بتقييم المؤسسة اعتمادا
على تصريحات المسؤول أو تزييناته، قد يكون شهادة زائفة بالعروس، ورقصا أبله
للخرساء في العتمة.