وردت القصة في كتاب الأغاني لأبو الفرج
الاصفهاني: جاء تاجر من أهل الكوفة إلى المدينة يحمل معه خُمرا -جمع خِمار- فباعها
كلها إلاّ السود منها، ولمّا كان هذا التاجر صديقا للدارميّ الشاعر، فقد شكا أمره
لصديقه، فيطمئنه بثقة ألّا تقلق ستبيعها جميعا لينشد بعدها الدارميّ:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه حتى ظهرت له بباب المسجد
فما هي إلاّ أيام، حتى بيعت جميعها، وسعدت
كل ظريفة بما اختارت من خمار أسود، لتحظى بوصف المليحة بباب المسجد، تمثلا بما
صوّر الشاعر، بل أن لفظ الظريفة الذي استخدمه الاصفهاني يشير إلى النباهة، وحس
الفهم والإدراك، بما أوحى أن الاختيار كان نابعا من الفطنة، لا من غرور.
قيل عن هذين البيتين أنهما جسدّا أول
نشاط للدعاية والتسويق بتاريخ العرب، بل بدا أن الشاعر ما أنشد شعرا بقدر ما رسم
صورة ملونة، بريشة فنان موهوب، لتسيطر على عقول وقلوب ظريفات المدينة، واستطاع
بذكاء أن يقلب المعادلة رأسا على عقب بين الدال والمدلول، فقد نسخ دلالة اللون
الأسود من لون محايد، أو غير محظوظ، ليعطيه دلالات برّاقة مثل المَلاحة، والفطنة،
وحسن الذوق، والاختيار.
في قصة أخرى وقعت في فرنسا، تفاجأ
التجار أن بعض أنواع الخوخ لديهم أصابها الكساد، ولم يعد يُقبل عليها الناس كما في
السابق، لذا قرّر التجار أن يعرضوا الحال على عالم نفسي، وعندما فكرّ العالم
بمشكلتهم أدرك أن كساد تجارتهم نابع من دلالات قديمة مُنفرة، والحل يكمن في بناء
صورة جديدة زاهية مشفوعة بجمل بليغة، تزيح الدلالات القديمة لتحل مكانها دلالات
أخرى جاذبة.
بحث العالم في دلالة الخوخ الحاضرة في
أذهان الناس فوجد أنها تشير إلى المجفف، والعانس، والمعاش، وإمساك المعدة، لذلك
رأى أن تتغير هذه الدلالات فورا، أُعجب التجّار بهذه الأفكار، وقرروا إعطاء الخبز
لخبازه، فوضعوا الفكرة بين يدي صانعي الدعاية وخبراء التسويق، فبرزت إعلانات جديدة
اعتمدت الصورة المبهرة، والكلمات المنمقة، لتتغير قواعد اللعبة، وتضع الخوخ في
صورة زاهية جديدة، فيها الكثير من الألوان والحركات والجمل المثيرة كان أبرزها:
هذه الثمرة الشهية تلّون دماءكم، وتجعل الأحمر على خدودكم.
تُبرز القصتان مدى سلطة الكلمة والصورة
في حياة الناس، فمجرد التلاعب بالكلمات قد يعكس العلاقة بين الدال والمدلول، ويغير
من قناعاتهم، ويشكّل وعيهم من جديد نحو أشياء لم تكن مستورة عنهم، لكنها خضعت
لشروط اللعبة المتجددة؛ إخراج جيد يجمّل الكِساء، مثلما صنعت الكلمة في المثال
الأول.
في المثال الثاني فرضت الصورة سطوتها،
حيث استطاعت بمزاياها المتعددة أن تغير قوانين اللعبة، وتجدّد العلاقة بين الدال
والمدلول، لتتبدل القناعات، ويهتز الوعي، فالخوخ هو نفسه، لكن المدلول تبدّل
متأثرا بجمالية الصورة.
يرتكز مبدأ الدعاية والترويج دائما على
فكرة أن الحياة ناقصة لا تستقيم دون استخدام المنتج المقصود، وأن الذين يستخدمونه
يتمتعون بالتميز والذكاء، لذلك نجد أن الدعاية هذه الأيام تقوم على صورة مبهرة،
تروج للمنتج، وتكيل المديح لمستخدميه.
باتت الصورة اليوم تداهمنا، وتعتدي علينا، وتقتحم راحتنا النفسية، وتحرضنا
على الإنفاق غير المبرر، بهدف تغيير وعينا، وهي ليست تلقائية أو بريئة، بل تخضع
لأدوات التزييف لتغيير مقاييس الثقافة لدينا؛ ارسالا واستقبالا وفهما وتأويلا،
فالصورة الوسيلة -الغاية- أصبحت في زماننا الحاضر أهم من باقي عناصر الرسالة، فهي
لا تأبه بالمُرسل أو المَرسل إليه، أمّا المضمون فمرهون بدرجة الإبهار، بهدف العبث
في تصوراتنا وذوقنا وثقافتنا.
طالما وصف الأدب بإنه برجوازي وصنعة
النخبة ممن ينتجون الكلمة بأشكالها المختلفة، أمّا الصورة فهي شعبية بمعنى أنها لا
تحتاج من المتلقي تعليما متميزا أو معرفة فريدة، بل يمكن للجميع تأويلها أو
تفسيرها دون وسيط أو وصي، لذا تبدلت الأدوار بين الأدب البرجوازي وثقافة الصورة،
ليتراجع النخبوي ويتقدم الشعبوي.
أمّا وقد وصلنا إلى هذه الحال من هيمنة
الصورة في ثقافتنا، فهل تطول هذه الهيمنة؟
عرف التاريخ أن الهيمنة تضم بين جنبيها
بذور مقاومتها، فالهيمنة غير مستحبة، ولا بد أن تواجه بأساليب وأدوات جديدة،
فالصورة تلقى التصديق المطلق كما التكذيب المطلق، والصورة تمسحها أو تنفيها أخرى
في لحظة، وطالما تدرجت الثقافة من الشفاهة إلى الكتابة إلى الصورة التلفزيونية إلى
ثقافة الصورة غير المؤسسية الطاغية الآن، إذاً فلنستعد لقادم مجهول أو نلتف إلى
الخلف.
الدوحة – قطر