لعبت المفارقة وحدها دورا كبيرا في بناء تلك التجربة المثيرة، كان ذلك
وليد الصدفة البحتة من ذلك العام (1995) في أحد الأقاليم الفرنسية (سوم)، عندما تم
العثور على ألاف من الشهادات للطلبة من المرحلة الابتدائية للأعوام (1923،1924،1925)
أثناء ترميم أحد المباني الإدارية، ويبدو أن النسيان أو الإهمال وحده حفظ تلك
الوثائق من الإتلاف، إذ تقوم الإدارات المدرسية عادة بذلك بعد سنوات قليلة.
أوحت الوثائق بفكرة جيدة تتمثل بعقد مقارنة بين مستوى الطلاب آنذاك (1995)
مع أقرانهم قبل (70) سنة، وحتى تكون المقارنة موضوعية، تم مراعاة أو استبعاد كافة
العوامل التي قد تغري بمهاجمة نتائجها.
بلغ عدد الشهادات التي عُثر عليها (9000)، وكانت فرصة لكي تجيب هذه
المقارنة على السؤال الشهير الذي يشغل بال الجميع: هل ارتفع مستوى الطلاب أم
انخفض؟ حيث كان ذلك السؤال مثار جدل كبير، لكن حتى توضع المقارنة (التجربة) في إطارها
الصحيح، تم انتخاب عينات من هذه الشهادات لطلاب يتماثلون مع أقرانهم من حيث العمر،
والمستوى الدراسي، وكذلك الاجتماعي، كما تم الانتباه إلى طبيعة الموضوعات التي تتلاءم
مع طبيعة المرحلة الراهنة (1995).
كان القائم على إجراء هذه التجربة مدير التعليم والسياسات المستقبلية
في الوزارة، ممن نُعت بإنه صاحب توجه تقدمي، حيث كان يؤمن بتحسن مستوى الطلاب عبر
الزمن، ويدافع عن وجهة نظره بصرامة، أراد التجربة فرصة حقيقية لإثبات ما يؤمن به وربما
نقيضه.
خرجت النتائج متباينة ما بين الزمنين، بحيث لم تقد إلى نتائج حاسمة في
المجالات المختلفة، لكنّ الأمر كان واضحا لا لبس فيه في جوانب لُغوية مثل الإملاء
والنحو، بحيث كانت النتائج حاسمة بشكل مؤسف.
على الرغم من أن الوزارة آنذاك لم ترغب بأن تجرح أحدا، لكن رقما دالا في
الإملاء تحديدا كان صادما، ففي نص يتكون من (20) سطرا كان معدل الأخطاء (5) في تلك
المرحلة من عشرينيات القرن العشرين، بما يعني الحصول على (0) في التقييم، بالمقابل
كان هناك (17) خطأً في نص مشابه للأقران نهاية القرن (1995)، وعندها يمكننا التنبؤ
جيدا بحجم التشويه الذي يمكن أن يحدثه هذا العدد من الأخطاء في النص.
وحتى لا يبدو القائمون على التجربة أنهم مهوسون بالتركيز على الأخطاء
اللغوية أو الإملائية، لاستخلاص نتائج غير واقعية، لكنهم اعتبروا ذلك مؤشراً هاماً،
ولم يكن بإمكانهم أن يُعزّوا أنفسهم بأن المستوى في مجالات أخرى قد يكون أفضل ففي
العلوم مثلا بدا أن المهارات الأساسية ليس من السهل القيام بها.
لكن كيف يمكن أن نفكر بعد ربع قرن منذ عام (1995) حتى الوقت الراهن؟ حيث
سيطرت التقنية في حياتنا بصورة غير عادية، فاليوم يكتب أبناؤنا حسب ما ينطقون بطريقة
مريعة، ولا يمر سطر واحد دون أخطاء، فكيف نخرج من ذات السؤال: هل ارتفع مستوى
الطلاب أم انخفض؟
يبقى السؤال قائما أبدا، لكن هل يمكن الاجابة على ذلك من خلال مقاربات
مثل: هل تقدمت الحياة عامة أم تراجعت؟ هل وصل الإنسان إلى السعادة المنشودة؟ وهل التقدم
والسعادة مرتبطان أساسا بما قد نطلق عليه التعليم العام أو نظم التعليم؟ باختصار علينا
أن ندرك أن التعليم في حياة الأمم أو الأفراد لا يُعدّ حالة انقلابية، بقدر ما هو
حالة متدرجة تصنع التغيير بدرجات مختلفة وسرعات متفاوتة، وربما كان الفرق في نهضة
الشعوب تبعا لمدى ارتباط التعليم بالتطبيق، وبقيم المجتمع من الحرية والكرامة وتقدير
المبدعين، فالتعليم حتما يقود إلى التغيير -وحسبه ذلك- لكنّ الأخير يحتاج جناحي
الفكر والممارسة المدّعمان بالتشجيع والحماية لكي يمضي قدما.