بقلم: حسين الرواشدة
فيما كانت اليافطات تملأ شوارع العاصمة عمان لتذكيرنا بأننا نحن 9 ملايين “الشعب الواحد” ارتفع صوت أحد النواب في البرلمان ليذكرنا بقصة “المكونات” فيما اقترح نائب آخر بتوزيع المكتسبات التنموية والموارد وفقاً للخريطة الديمغرافية.
تحتاج “الاجندتان” الى وقفة ومراجعة، لكن قبل ذلك استأذن في تسجيل ملاحظة هامة وهي انه لا يخطر في بالي ابداً أن اغوص في أعماق فكرتين مركزيتين ترتبطان بشكل او بآخر في هذا الموضوع، الأولى فكرة “التاريخ الأردني” المكتوب أو الذي لم يكتب بعد، وثانيها فكرة “الذاكرة” الجمعية الأردنية التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى الى مزيد من التحرير والتنويه أيضاً.
لا اريد أن افعل ذلك لأن الإجابة عن سؤال :ما هو الأردن ومن هو الأردني ؟ او إن شئت سؤال الهوية الأردنية تحتاج الى رأي فقهاء التاريخ في بلادنا، فهم أقدر مني على ذلك، ناهيك عن ان الغوص في ذلك يحتاج الى “مراكب” آمنة تستطيع ان تتجاوز أمواج “الحساسيات” والجراحات، وهي الآن غير متوافرة، كما ان الوقت لا يسمح بركوبها.
في مسألة “يافطات” الشعب الواحد، ثمة فرق أولاً بين مصطلح “السكان” ومصطلح “الشعب” وإذا كانت اركان الدولة – أي دولة-هي الشعب والإقليم والسلطة، فإن مفهوم الشعب ينصرف الى الأفراد القاطنين في إقليم الدولة ممن يتمتعون بجنسيتها وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، فيما ينصرف مفهوم “السكان” الى الافراد المقيمين، سواءً اكانوا من شعبها ام من الأجانب الذين لا تربطهم بالدولة الأردنية الا رابطة الإقامة.
إذا دققنا في شعار :9 ملايين الشعب الواحد، فإن الخطأ يبدو مقصوداً، لا سيما وان عدد سكان الأردن حسب آخر الاحصائيات (2014) بلغ نحو 9.5 منهم 30% من غير الأردنيين؛ ما يعني ان عدد الأردنيين (الشعب) نحو 6.6 مليون فقط.
لماذا أقحم إذن الرقم 9 ملايين على “الشعب” الواحد ؟ بالعودة الى التعداد السكاني الأخير الذي أشرنا اليه سلفا نجد ان نسبة 30% من السكان في الأردن تتوزع بين (1.3) مليون سوري و (636) ألفاً من المصريين و (634) ألفاً من الفلسطينيين الذين لا يحملون رقماً وطنياً، بالإضافة الى جنسيات أخرى كالعراقيين (130 الفاً) والليبيين (23 ألفاً) واليمنيين (31 ألفاً).
أما فما يتعلق بمسألة المكونات فاعتذر للقارئ الكريم عن الخوض في تفاصيل الأرقام، وسأكتفي بالإشارة الى ملاحظتين: الأولى هي ان الأردني الذي اكتسب الجنسية الأردنية بصورة مشروعة يندرج في إطار “الشعب” الواحد، والمجتمع الواحد، والدولة والقضية الواحدة، واي تصنيف او محاولة للمحاصصة او عزف على وتر هنا او هناك، قضية لا يمكن هضمها او حتى ابتلاعها، فهي مرفوضة ومدانة لأنها تعبر عن “اجندة” غير وطنية اولاً، كما انها تتعامل مع الأردن والأردنيين بمنطق غير لائق، اخلاقياً وسياسياً، وتتعارض مع قيم الدولة والمجتمع وتنخر في بناهما أيضا.
اما الملاحظة الثانية فهي ان “المظلومية” التي تستدعي احياناً خطاب المكونات والديمغرافيا تبدو مسألة مغشوشة بامتياز، ليس لأن الذين يرفعون هذا الشعار هم الأكثر حظاً او نصيباً من الخيرات والامتيازات وانما لأن “مسطرة” المظلومية لا تتعلق ابداً بأصول ومنابت ولا حتى بجغرافيا وديمغرافيا، وانما تتعلق باعوجاج موازين العدالة احياناً، وغياب التنمية واتساع دوائر الفقر والتهميش، وهذه كلها يتقاسم تبعاتها الأردنيون جميعاً، ولا فرق ابداً بين مواطن اصيل او آخر بديل، حسب تصنيفات البعض، لأن المواطنة الاصيلة هي ملك للجميع سواء في المغنم او عند المعزم.
حين ندقق في “الأجندتين” : أجندة اللافتات واجندة المكونات، نجد مفارقة غريبة وهي انهما وان اختلفتا في الشكل والمظهر، الا انهما تتفقان في الرسالة والجوهر، فكلاهما يعبر عن هواجس واحدة، اللافتات تريد ان تخلط الأوراق لكي تقنعنا بأن “السكان” أصبحوا هم الشعب الواحد، وان توطينهم اصبح امرا واجبا، والمكونات تشير أيضا الى ان “الشعب” ينقسم الى مكونات ويجب التعامل معها على مسطرة واحدة، نجد ايضاً ان “الاجندتين” تنسفان مبدأ الهوية الوطنية التي يفترض ان لا تخضع لخلط المفاهيم وطمس التنوع المطلوب والخصوصيات، كما انهما تثيران هواجس الأردنيين ومخاوفهم من استحقاقات المرحلة القادمة، سواءً على جهة القضية الفلسطينية التي تمر بأسوأ منعطفاتها التاريخية، او جهة الحرب في سوريا والعراق، وما قد تفرزانه من تقسيمات مصيرية للمنطقة بكاملها، زد على ذلك ان مثل هذه الاجندات تذكرنا بقصة “المملكة” الكبرى التي كدنا نطوي صفحتها…فيما لا يزال البعض يصّر عليها لأسباب لا يمكن وصفها الاّ انها “مشبوهة”.
عن الدستور