لم يكن الأردنيون بحاجة لأزمة كورونا لإعادة اكتشاف أنفسهم وما تأصل فيها من قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، فقد عايش هذا الشعب على مدار العقود الماضية وما يزال أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية محلية وإقليمية ذات تأثير محلي، وفي كل مرة كان يتجاوز المحنة بصبر وثبات مكّناه من الاستمرار في مغالبة الحياة والتغلب على نوائبها.
كما في كل الأزمات، تتشكل مع إرهاصات اجتياحها ظاهرة التنظير والتحليل لما يكتنفها من سلوكيات وما سيعقبها من نتائج وتغيّرات. راهن البعض على أن ثمة تغير حقيقي قد طرأ على القواعد التي تحكم علاقة المواطن بالدولة، متناسياً أن ذاكرة الأزمات كما قلنا سابقاً قصيرة ولا تصلح محلاً للقياس أو الاستنتاج بعيد المدى، فخوف الناس ولوذهم بجهات تتصدر المشهد بغض النظر عن سابق أو لاحق علاقتهم بها أو رئيهم فيها؛ يمثل ردة فعل طبيعية لكنها وقتية لا تصلح لتكون مرتكزاً لاستنباط تحولات جذرية يمكن أن تحدث مستقبلا على الصعد السياسية والاجتماعية.
قرارات وتدابير احتواء الجائحة التي حالف معظمها التوفيق واستجابة المواطنين الطبيعية الآنية لها؛ جعل البعض يرى أن ثمة مؤشر على تبلور شكل جديد من العلاقة بين الفرد والسلطة قوامها المساءلة والمكاشفة والممارسة الديمقراطية الحقة المبنية على الكفاءة ومصداقية التمثيل. هذه أمنية مشروعة وحبذا لو تتحقق، لكن كما قال أمير الشعراء: "وما نيل المطالب بالتمني...".
الوصف التحليلي لابن خلدون لمكنون وطبائع شخصية المواطن العربي منذ قرون؛ لم يطرأ عليه تغيير جوهري على الرغم من عبور أزمات وبائية واقتصادية وعسكرية عصفت بهذه الأمة كان ينبغي –لو صح رأي المنظرين- أن تخلق روحاً وسلوكاً جديداً لدى أبنائها ولوجدنا أثره حاضراً بيننا اليوم، إلا أن الحقيقة العلمية والعملية أن البقاء والسلطان للقيم والموروثات التي استقرت في الضمير الجمعي للشعوب، فالتغيير في منظومة القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بالسلطة الحاكمة ليست مما يتغير بطفرة تحدثها أزمة عابرة.
لم يتعلم الكثيرون من منظّري الأزمات من أخطاء الماضي القريب، حينما طلعت علينا نظريات تبشر على سبيل المثال بميلاد جيل جديد ومرحلة تحول نوعي مع ظهور ثورات "الخريف العربي" التي أفضت في جلها إلى ترسيخ حكم الأنظمة الشمولية والطائفية؛ بحيث غدت الشعوب تبكي على أطلال أنظمة جلاديها التي تهاوت تحت ضربات صيحات احتجاجاتها التي عمت الميادين والشوارع. مرحلة أخرى جديدة أنذر بها هؤلاء المنظّرون مع ظهور حركة داعش الإرهابية التي كانت من وجهة نظرهم تختلف عن سائر الحركات الإرهابية؛ إذ أن شعار "باقية وتتمدد" -كما قال هؤلاء- يجب أخذه على محمل الجد لأنه غالباً ما سيتحقق وأن هذه الحركة سوف تفرض وجودها وستخلق واقعاً جيوسياسياً واجتماعياً واقتصادياً جديدا؛ ؛ يجب على دول المنطقة التهيء له والتعايش معه، لنجد هذه الحركة وقد تحللت في أرضها بلمح البصر ولم يبقَ منها سوى ثلة متناثرة من مجموعات إرهابية هنا وهناك تقوم بأعمال تخريبية بين الحين والآخر ثم تنسبها للكيان المتهالك. التحليل والتأصيل للظواهر والأحداث أمر مطلوب لكن الإفراط في التوقعات وتعظيم أثرها التغييري المحتمل على قضايا مفاهيمية راديكالية؛ يمثل من وجهة نظري شطط غالباً غير مقصود.
التنظير بحدوث تغيّر جوهري متوقع على المشهد السياسي والتعاطي مع الشأن العام بل أبعد من ذلك -وفق ما ذهب إليه البعض- الحديث عمّا يشبه إعادة بلورة عقد اجتماعي جديد؛ هو ضربٌ من محاولة التأسيس لحقبة جديدة دائمة قائمة على أسس مؤقتة زائلة، فكل ما نراه من ردود أفعال واستجابات وتفاعلات مع الأزمة الوبائية الراهنة ومتطلبات احتوائها؛ هو مجرد انفعال عاطفي مؤقت محمود ومطلوب في هذه المرحلة لكنه مرهون من حيث الشدة والتراخي والزوال بحركة منحنى الإصابات والوفيات، ولا ينبغي، أو على الأقل يجب توخي الحذر في البناء عليه والاستنباط منه لرسم صورة غير واقعية لمستقبل جديد متغير في الملامح متطرف في المطامح.
ما نفتقده حالياً هو خطط عملية واضحة بخطوات واقعية وكلف محددة تنظم العودة إلى ما يشبه الحياة الطبيعية ومعالجة ما خلفته هذه الأزمة من تحديات اقتصادية في قطاع الأعمال خصوصاً الصغير منها والمتوسط، فالأمرأبعد بكثير من مجرد أدلة إجرائية تنظم عودة العاملين والموظفين إلى أماكن عملهم على أهميتها. أزمة كورونا على خطورتها، لا تعدو كونها مجرد أزمة تخضع لقواعد علم إدارة الأزمات من حيث تدابير تجاوزها ومعالجة نتائجها، فهي لا كاشفة عن جديد كنا نجهله في أنفسنا ولا منشئة لطفرة في علاقة المواطن بالسلطة ولا تعاطي هذه الأخيرة مع الشأن العام.