كن ابنَ من شئتَ واكتَسِب أدباً = يُغنيكَ
محمودهُ عن النسبِ. فليسَ يُغني الحسيبُ نسبتهُ = بلا لسانٍ لهُ ولا أدبِ. إنَّ
الفتى من يقولُ ها أنا ذا = ليسَ الفتى من يقولُ كانَ أبي.
حينما أنشد أسلافنا العرب هذه الأبيات، كان عماد
مجتمعهم وتولي مواقع القيادة فيه من حظ سليلي القبائل والعائلات العريقة بتاريخها
وعلمها وإسهاماتها في رفعة المجتمعات التي تنتمي إليها وتعزيز مكانتها بين
نظيراتها،أي أن الأنساب التي ينهى الشاعر عن التفاخر بها؛ كانت مما يدعو حقاً
للفخار لأنها سطرت بطولات وإنجازات تتحدث عنها، ومع ذلك، أدرك العرب بفطرتهم
السوية وحكمتهم العلية أن ما يجعل المرء معتبراً بين الناس ومستحقاً لاحترامهم
وتقديرهم؛ ليس أجداده ولا أقربائه بل حسن خلقه وعلمه وما يساهم به من عمل لخدمة
مجتمعه وأمته.
أما في زماننا، زمن الضعفاء المستقون بالبلطجية
من أقاربهم، الإغنياء بإفلاسهم الخلقي، زمن يتجرأ فيه الحمقى على تسلق مواقع الحل
والعقد واتخاذ القرارات، لا يسندهم في ذلك قطمير علم ولا نِذر يسير من تفكير، إلا
محض انتماءات عصبية بائسة تُكيَّل بالعدد والعتاد لا بالنبل والشيم الحميدة وما
حققته لنفسها ولغيرها من إنجاز مستحق، زمن بات فيه الحصول على شهادة الدكتورا أسهل
من شراء كيلو قطايف بعد ظهيرة أول يوم من رمضان.. في هكذا زمن وبيئة موبوءة؛ لا
غرابة أن ترى غربان الخواء تطفلت على مجالس وحلقات اتخاذ القرار التي ينبغي أن تضم
خبيرات وخبراء وفقيهات وفقهاء وعالمات وعلماء.. فتغتصب أحد مقاعدها ثم تتجاوز
ذلك لتلفت إليها انتباهاً يتشتت حتماً عن
أمثالها فتتطاول على ما لم يكنن لمثيلاتها
مطاولته لولا انقلاب الموازين واستبدال العارفين بالجاهلين ودمثي الخلق
بالرداحين.
في جلسة سريالية جمعت أشخاص أفاضل نبت بينهم
متسلق مفلس فبهت على المشهد كأنه بقعة داكنة في ثوب أبيض ونغمة نشاز -في لحن
متآلف- تؤذي الأذن وتقشعر من جعيرها الأبدان وتصتك من صريرها الأسنان، انبرى ذاك
الذي لا محل له من إعراب مدفوعاً بغربة معرفية وفجوة ثقافية إلى ممارسة الحرفة
الوحيدة التي يتقنها متسلقي المواقع على أكتاف عصبتهم ، فباشر في تقديم استعراض
أكروباتي مقزز لعضلات حنجرته وسلاطة لسانه وهمجية أسلوبه.. مهاجماً بغلظة وعنف
فطريان؛ دون مقدمات ولا سبب يُعقَل أو يُقبَل من يستشعر أمامهم ضحالة الفكر وفقر
التحضر، ليتحول المشهد إلى فقرة في سرك يستعرض فيها بهلوان قدراته المحدودة على
الاستطالة إلى ما لا سبيل له عليه، لتكون النتيجة وصلة من الردح والرقص والترنح
والتأرجح ثم السقوط إلى حيث هو جدير به.
الشاهد هنا ليس سوء الأدب والتشبيح، إذ تلكم
خصال وخلال باتت بمثابة منفذ العبور للمتنفذين غير الشرعيين ببلطجتهم إلى مقام
الخبراء والمبلاء بخلقهم وحصافتهم، وإنما بيت القصيد في هذه الحادثة هو مصدر
الاستقواء الذي يجعل أمثال هذه الشخصيات الهشّة المهمشّة ذاتياً تتجرأ على
المجاهرة ببلطجتها والمفاخرة بصعلكتها! والمدهش غير الصادن أنك حينما تسأل عمّن
يكون أمثال هؤلاء؟ سيقال لك: «أبناء فلان.. وأولاد عمّ علّان.. وعمهم أو خالهم
ترتان..» دون أن يخبرك أحد من يكون الرديح الشبيح نفسه وما هي حيثيته في العلم
والمعرفة والخبرة.
أي إصلاح يمكن الحديث عنه إذا كان كل ما يلزم
البعض لشغل موقع يجد لنفسه المهزوزة فيه موضع؛ مجرد الحصول على شهادة من جامعة
«هات إيدك والحقني وأبّجني اتجدني ودرهمونا تجدونا..»و«رخصة بلطجي-فئة أولى» وهاتف يلوح به يحتفظ فيه بأرقام عصبته ليتصل
بهم كي يستجير ويدعوهم للنفير.
لم تكن مثل هذه العوارض من الأحداث ولا فتواتها
لتستحق الوقت أو الجهد للكتابة عنها لولا خطورة دلالاتها، إذ هي تؤشر إلى حجم السد
المنيع والبون الشاسع الذي يفصل بين سواد أعظم من مجتمعاتنا وبين التَمَديُن
والتحضر المسلكي والمؤسسي، ولولا ذاك، لما استحق قطّاع الطريق هؤلاء أكثر من قول الإمام الشافعي:
«يخاطبني السفيهُ بكلِّ قبحٍ، فأكرهُ أن أكون له مجيبا = يزيدُ سفاهةً فأزيدُ
حِلما، كعودٍ زادهُ الإحراقُ طيبا».