بقلم: د. عودة أبو درويش
اصطفّ طابور الطلبة في ساحة مدينة الحجّاج ، وهي أيضا ساحة المدرسة الاعداديّة التي لم يكن لها مقرّ دائم . فاذا اقترب موسم الحج كان لزاما أن ينتقل المعلّمين والطلاب ومقاعدهم ودفاتر العلامات وأدوات الرياضة وكلّ شيء الى بناء آخر ، يحصّلون فيه العلم ، ثمّ يعودون بعد مغادرة الحجّاج للمدينة . تحدّث الى الطابور الصباحي مدير المدرسة ، وأعلن أنّه ، وبناء على اقتراب وصول الحجّاج ، فإننا سننتقل الى مكان آخر ، الى المدرسة الابتدائيّة مقابل الجامع الكبير ، وأنّ على كلّ طالبين حمل مقعدهم الى هناك ، و سيكون الدوام فيها اعتبارا من بداية شهر تشرين الثاني ، أي الاسبوع القادم ، ولكن فترة مسائيّة ، تبدأ بعد صلاة الظهر . امتدّ طابور الطلبة على طول الطريق محاولين نقل مقاعدهم الثقيلة ، يحملونها لامتار قليلة ثمّ يستريحون ، ويفكّرون بالموسم ، الذي سيقلب حال مدينتهم وسكّانها ، فهم ينتظرونه كلّ عام على أحرّ من الجمر .
في مدينة الحجّاج كلّ عام يتجمّع المسافرين لأداء الفريضة من الدول العربيّة والاسلاميّة التي لا بدّ أن تمرّ من معان في طريقها الى الديار المقدّسة ، وكان يخيّل لنا نحن الصغار ، أنّ معظمهم من تركيّا . وفي الحقيقة يأتون من دول شرق أوروبا ومن العراق وتركيا وسوريّا وغيرها من الدول . بعضهم يصل راكبا سيّارات نقل صغيرة وبعضهم في حافلات كبيرة وآخرين في شاحنات ، بحيث يتحوّل صندوق الشاحنة الى كراسي للجلوس وجزء منه لتخزين المتاع . كان كلّ الحجاج يدخلون المدينة ويختلطون مع سكّانها ، يفحصون سيّاراتهم ، ويختمون جوازات سفرهم . يصّرفون نقودا ويشترون ، أو يحصلون على ماء وعصير وفواكه من السبيل ، الذي يقيمه أهل المدينة وبعضهم يبيع بضائع أتى بها من موطنه . كنت أحبّ أن أذهب الى ساحة مدينة الحجّاج . أراقب المتطوعين في السبيل وهم يحضرون أشياء كثيرة من متبرعين في سبيل الله ، فيعطونها الحجّاج دون مقابل ، وينادون عليهم بكلمات بعضها أفهما وأخرى بلغة غريبة .
قبل أن يحلّ الظلام وأنام ، اقتربت من جدّتي التي كانت قد انتهت من صنع العجين لخبز الصباح . قبّلت يدها واحتضنتها . عرفت أنّي اريد شيئا ، فسألتني . أخبرتها أنّي أريد خبزا من الذي تخبزه في الطابون غدا . اعتقدت هي أنّي اريده للمدرسة ، وكان عليها أن تزيد كميّة العجين ان أرادت أن تحقق لي رغبتي ، ففعلتْ ولكنّها اشترطت عليّ أن أحضر لها غدا أحجارا صغيرة مدوّرة تستعملها في أرضيّة الطابون ، وهذه كانت مهمّة تعوّدت عليها وسهلة عليّ . لم أنم ليلتها بانتظار الخبز . ومع تباشير الفجر ، وبعد أن سخن الطابون ، بدأت تضع الارغفة فيه ، ثمّ تخرجها ساخنة شهيّة ، وضعت لي في خرقة كبيرة ثلاثة أرغفة . حملت كتبي في يد والخبز في الأخرى وانطلقت الى مدينة الحجّاج باكرا ، قبل أن يأتي موعد دوام المدرسة المسائي . وقفت على مدخلها ، كانت ما تزال خاوية ولم أعرف لماذا ، ، ولأنّي لم أفطر ، قلت في نفسي ، لا بأس في قطعة من رغيف ، فأكلتها .
بعد ان انتظرت طويلا جاءت سيّارة البلديّة . ترجّل منها بعض العمّال ومراقبهم ، نادى عليّ وسألني ماذا أفعل هنا . أجبت بأنّي انتظر الحجّاج . ضحك وقال لن يأتوا قبل اسبوع وقد أتينا لتحضير المدينة لاستقبالهم . اذهب الى مدرستك فقد انتقلت من هنا . خاب أملي فتناولت رغيفين ومددت يدي بهما الى الرجل . فهم منّي القصّة وقال ، أنقل لجدّتك شكر عمّال البلديّة ، واطلب منها أن تخبز لك أكثر عندما يأتي الحجاج . فرحت كثيرا ووسّعت خطاي الى المدرسة وأنا آكل ما تبقّى من الرغيف الثالث ، وكان أشهى رغيف خبز أكلته في حياتي .